لا سُلطانَ على السُلطان

11 ابريل 2024
+ الخط -

قد ينجو المرء من حتميةِ الغيابِ عن عوالمِ الوجود المُتعارف عليه مرّة، ومرّتين، ومرّات، فيبقى الجسد ربّما، وبقليلٍ من الحظِّ الجيّد، صامداً مُتماسكاً، على أقلِّ تقدير، للناظرين المُتعَجبين، بينما تراوح النفس في غياهب ملكوتها غائبةً، لا تُرى ولا تُخترق، وغالباً ما يكتنفها الغموض. ما الذي حلَّ بها يا ترى؟ هل ما زالت تُداعب الحياةَ بأناملها راغبةً؟ هل ما زالت تؤمن بالصبر والعدالة وتُعانق نفحات الأمل؟ أم تخلّت عن حقِّ الوجود المترسِّخ في الأرض وهَجَرَتهُ مودعةً؟ 

"ماذا تعرفون عن الحرب والخوف يا سادة؟ ماذا تعرفون عن تلك اللحظات التي يحوم جبروت الموت حول أحبائنا، ونقف حينها عاجزين عن فعلِ أيّ شيء لمنعِ المجزرة الوشيكة؟ إنّها لعنة النجّاة وموت الأحبّة التي ترافقنا ما حيّينا، وتحرِمُنا نعمةَ النوم في طمأنينةٍ وسكون. إنّه الشعور بالذنب على خطيئةٍ لم نقترفها، ولكنّنا كنّا شاهدين عليها، بما يُثقل صدورنا ويدفعنا للمناجاة في صمتٍ بعيداً عن ضجيج العالم وسخرية الواقع الرتيب. لربّما علينا إعادة النظر في مفهوم النجاة هنا، فقد يكون الحضور في رحابِ سموات الله الواسعة أرحم بآلاف المرّات من الحياة مع ذاكرة تملأُها الذكريات المتناثرة وأصوات الآهات. 

لا أحد يملك الحقّ بالتحدّث باسمِ من رحلوا واستكانوا في أعماقِ الأرض. لا أحد يملك الحقّ في لومهم على ذاكرتهم المتهاوية في الحضيض حتى أقرب الناس إليهم. إنّهم أولئك القَتَلة الذين يختبئون خلف الأبواب المطليّة بالذهب ويُشَرِّعون قتل الآخر والتنكيل بكلِّ إنسان يرفض الانصياع لوحشيّتهم. أعداء البشرية المرضى هؤلاء هم من يجب أن يُلاموا، وتُخَلّد أسماؤهم في ذاكرتنا وذاكرة أبنائنا من بعدنا. أيّ إنسانية هذه التي تتحدثون عنها؟ أيّ داء هذا الذي غزا عقولنا عن سرديّة رِفعَةِ الإنسان والافتراء على جميع خلائق الله الأُخرى بناءً على ذلك؟".

لا سُلطان على السُلطان٬ وصاحِبُ الحَقِ سيِّدُ السَلاطين٬ ولو بعد حين

يتابع سُلطانٌ الحقِ رسالته مستطرداً: "قد تختارون التشكيك في كلامي إذا قلت لكم أنّي غدوت حرّاً الآن، حرّاً طليقاً كما ولدتني أمي المُغيّبة بفعلِ وحشية الإنسان الغبي وقنابله الذكية. نعم أنا حرٌ من كلّ أوهامكم ومسارِحكم الإنسانية الهزلية. أنا حرٌ منكم ومن أفعالكم الشنيعة. أنا الضحية التي تهافتت الجموع على نهشها من كلّ حدبٍ وصوبٍ. أنا حرٌ من أنانيّتكم الدونية الشَرِهة. أنا الناجي الوحيد بينكم، وإن ظهر العكس في الوقت الراهن. لن أطلب يوماً تعاطفكم، لأُشبِع غروركم الساذج. أنا الحر الذي دفن كلّ ما أحبّ بيديه، لكم قصائد التلاعبِ عن الإنسانية والحقوق والقيم، ولي الهواء الطلق ونعيم التحرّر من سطّوة أناشيد مزوّرة. فالعدل هو مزاري كما هو مزار كل مُتَنَسكٍ نفيس، ورعب كلّ طاغٍ من الحسيب. والصبر ما هو إلاّ نصرُ كل ثائرٍ مَهيب، وهزيمة كلّ سفاحٍ مقيت. أما الأمل فيبقى سيفُ كلّ مُهَجَّرٍ كسير، ونكسَةُ كلّ جبارٍ عنيد. والحقّ هو شعلةُ كلّ واثقٍ أصيل، وقيدُ كلّ سارقٍ ذليل. قتلتموني مرّةً عندما غَيّبتم عائلتي بوحشية، ولكن هيهات أن تقتولوني مرّتين. أنا كالشمس ما وطئت تغيب حتى تحيا من جديد. أنا لست وحيداً هائماً، أنا ضمير كلّ إنسان ليس دنيئاً وفكرة نبيلة مُترفِعَة تسكن كلّ قلبٍ كبير وعقلٍ عظيم، فاقتلوني مرّةً أخرى وأخرى وأخرى وعهداً عليّ سأعود إليكم من جديد، فأنا سُلطان الحقّ الذي لا يقوى على عزيمته أحد وإن طال الزمان وعَمّرت العروش.

لا فَجْرَ يبزغ على قلوب الجبناء النائمين. من باع، باع نفسه ليستعير بها قميصاً مُقلّداً يؤويه إلى حين. ومن اشترى، اشترى نفسه وعاش في القمم الشاهقة يعانق السحاب عزيزاً لا تطاوله طوابير المتخاذلين".

كما أنّ هناك في كلّ زمان أنفسٌ لا تُهزَم ولا تُستباح، هناك أيضاً أفكارٌ لا تموت بالتقادم مهما حُوربت وشُوِّهَت ورقصت على خشبةِ مَسارحُها أسرابُ المُستَخفين. تتقلب الفصول وتتبدل الأدوار، ولكن الحقَّ ثابت على مر العصور. لا سُلطان على السُلطان، وصاحِبُ الحَقِ سيِّدُ السَلاطين، ولو بعد حين.    

صورة
جابر محمد
خريج ماسترز في الدراسات الإنكليزية والأمريكية في ألمانيا .. مهتم بالشأن العام العربي والعالمي.