عن فرضِ القيم ومصيدةِ الترفيه

04 ابريل 2024
+ الخط -

قد لا يدرك عشّاق السينما والدراما، العالمية أو المحلّية على سبيل المثال، نوعيةِ الأفكار والقيم المراد تسويقها وتمريرها من خلال الأعمال الفنية المشوِّقة المطروحة، ومدى تناسبها مع قيم البيئة المحيطة للمتلقي وظروفها الراهنة، وكذلك مدى تأثيرها على الوعي الفردي إذا ما أخذنا بعينِ الاعتبار قدرتها على زعزعةِ أو تكريسِ منظومة القيم الفردية والجماعية، بما يتناسب مع سياسة المموّل أو ربما الناشر، وما يترتّب على ذلك من عواقب قد تكون وخيمة، ليس فقط على المستوى الفردي، بل على المستوى الجماعي أيضاً.  

لا يمكن الجزم والقول إنّ المحاولات المشبوهة لصبغِ العالم بلونٍ ثقافي ومنظورٍ حضاري واحدٍ، قد باءت كلياً بالفشل، لأنّ محاولات فرض القيم ومعلّقات العنف المعرفي ما زالت قائمة ومستمرة بتصميمٍ منقطعِ النظير، وبشتّى الطرق الممكنة، وعلى الأصعدة كافة. ويجب التنويه هنا، وبشدّة، بأنّ الأمر لا يتعلّق بتاتاً بما يسمّى نظريات المؤامرة والخطاب الرتيب الذي قد يُوصف بالرجعية لبعض التيارات السياسية والأيديولوجية المعادية لكلِّ شيء مختلف عمّا اعتادت عليه وألِفتهُ، وبالطبع لكلِّ ما يمكن أن يقّوض سلطاتها، إذا كانت قابعة في سُدّة الحكم لا تتزحزح. 

التنوّع في الأفكار ووجهات النظر يُعتبر من حيث المبدأ حالةً صحيّة للمجتمعات الإنسانية أيّاً تكن، ولكن يجب التمييز بحذرٍ شديد ووعي كبير بين التنوّع الفكري البنّاء الهادف المتمثل مثلاً في التمثيل الاجتماعي والسياسي لمختلف التيارات الفكرية على أساس التوجه الاستراتيجي للدولة المتفق عليه مسبقاً بمشاركة جميع التيارات الاجتماعية والسياسية، وبين محاولات ضرب هُوية الفرد أو الجماعة، المُكتسبة أو المُعتَنَقَة عن طريقِ الترفيه واللعب على وترِ الغرائز الإنسانية المختلفة التي، إن تمكنت من فرض سطوتها المدمرة على الإنسان، فإنّها لن ترحَمَه، وقد ترحل به في رحلةٍ بلا عودة إلى غياهبِ النسيان في عوالم الإدمان المُقَنَّع بوهم التَحَضُّر المزوّر، والحرّية المغلوطة المُغلَّفة بعباءة الاستهلاك السلبي، في إطارِ ما يُمكن أن نطلق عليه عملية "اللاأنسنة الطّوعيّة للإنسان"، حيث يتخلّى الإنسان إثر ذلك عن كرامته الوجودية الضرورية لنجاته، ويتحوّل إلى مدمنٍ عاجز يبحث دوماً عن الإشباعِ اللحظي، أو بأفضلِ الأحوال إلى سلعة مُسلّية تُباع وتُشترى، ولكن للأسف لا تُسْتَرَدُّ أبداً. 

من ليس له جذور ليس له مستقبل، ومن خاصم التاريخ، خاصمه التاريخ وآلمه

إنّه لمن المؤكد أنّ التعرّف إلى الحضارات والسبر في أغوار مفاتنها وأفكارها يمكن أن يرتقي بالإنسان إلى حدودٍ من الأفقِ الفسيح التي لا يمكن تخيّلها، وعلى غرار ذلك يتوّجب على الإنسان أن يدرك أيضاً أنَّ من ليس له جذور ليس له مستقبل، وأنَّ من خاصم التاريخ خاصمه التاريخ وآلمه. وتجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى أنّه لا يمكننا التقليل من شأنِ الأفكار والقيم والخبرات المتوارثة المتراكمة منذ آلاف السنين، ربّما متسلحين بحجّة الحداثة والتأقلم مع العصر. ففي المجال العلمي يجري التأكيد أنّ المعرفة تراكمية ولا تهبط علينا من السماء، وقد يعود الباحثون بتفانٍ إلى أقدم المصادر لاستخلاص العبر، فبأيّ حقٍ يدّعي البعض التفوّق المعرفي ويستهزئون بتجارب أجدادنا، بناءً على مرحلة الانحدار التي لا تخفى على عاقلٍ في الوقتِ الراهن؟  

يَستحيل كذلك من ناحية أخرى، وصمُ فكرة الترفيه الضرورية والقيم المُستَلهَمَة إرادياً من الثقافات الأخرى بالسلبية. على العكس، فإنّ الأفكار الخلّاقة والقيم النبيلة ليست حصراً على شعبٍ دون الآخر، فالنُبل والقيم المُتَرفعة لا تعترف بالجغرافيا وألاعيب السياسة ولعنة الحدود، وإنّما بالتجربة الإنسانية الفريدة وملاحم الآلام الكثيرة التي تكتنفها. من هذا المنطلق، لا تتعلّق القضية في فكرةِ الترفيه والقيم المُستَلهَمَة بحدِّ ذاتها، بل في تسييس صناعة الترفيه ومحاربة القيم التي لا تتفق مع المركزية الغربية، من خلال دسِّ السم في العسل والتشويه المتعمّد للشعوب الأخرى، كما يجري تصوير العرب كإرهابيين على سبيل المثال، وتعميم الصورة وصبغها بلون الحقيقة من خلال التكرار الممنهج، وقِسْ على ذلك من تدليس جبان بحق الشعوب الأخرى أيضاً. 

أمّا أخيراً، فيجدر الاعتراف بقناعة تامة بأنّ الترفيه ضرورة حياتية ومتنفس نفسي رائع لكلّ إنسان، ولكن الوعي بحقيقة العالم والنضج المعرفي الحيوي يمثلان أيضاً ضرورة وجودية حتميّة لحماية أنفسنا من ويلات مصيدة الترفيه الخطيرة وحِيَل فرض القيم الخبيثة المرتكزة في جوهرها على مكامن ضعفنا المُتجذّرة في غرائزنا الإنسانية المتعدّدة. 

صورة
جابر محمد
خريج ماسترز في الدراسات الإنكليزية والأمريكية في ألمانيا .. مهتم بالشأن العام العربي والعالمي.