كرة القدم.. الإعلام وخدمة خطاب الكراهية
خلال مونديال 1974، كان ملعب "هامبورغ" مسرحا للمواجهة التاريخية، الأولى والأخيرة، بين ألمانيا الغربية وجارتها الشرقية، ضمن الدور الأول من نهائيات كأس العالم لكرة القدم. المناسبة الرياضية الفريدة من نوعها، والتي انتهت بفوز ألمانيا الشرقية، لم تنل منها الصراعات السياسية بين "الدولتين"، بل كانت فرصة لتأكيد الوحدة بين الألمانيتين، من خلال الروح الرياضية التي سادت خلالها.
وإذا كان هذا الحدث يقدم لنا مثالاً من الماضي عن كيف يمكن للرياضة أن تكون قناة دبلوماسية لتخفيف حدة الصراعات السياسية بين الدول، فإن الحاضر يقودنا إلى دورها في تسهيل الحوار في شبه الجزيرة الكورية، بين الدولتين اللتين تعرفان أطول صراع بين القرنين 20 و21. فكانت دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سيول سببا في التقارب في عام 2018 عندما أعلن زعيم كوريا الشمالية مشاركة الرياضيين الشماليين في الألعاب. وبعد أشهر من هذا الإعلان، سار الرياضيون من الكوريتين تحت علم واحد، بل إنهما لعبا بمنتخب نسائي واحد في منافسات هوكي الجليد.
صحيح أن الصراعات السياسية كثيرا ما أرخت بظلالها على الرياضة بل وأفسدتها، خصوصا إذا كان ذلك مقرونا بتجييش إعلامي منفلت من كل رقابة أخلاقية، إلا أنه في الوقت نفسه، يمكن أن تلعب المناسبات الرياضية دورا بارزا في نشر قيم التعايش والسلام ومحاربة خطابات الكراهية بين الشعوب، وتجاوز الخلافات السياسية مهما كانت حدتها.
إن محاولات الاستغلال الضيق للرياضة لأغراض سياسية لا يمكن أن تأتي إلا بنتائج عكسية. فعندما تسعى السلطة السياسية في دولة ما إلى تحويل أي رياضة شعبية لأداة من أجل تحقيق مآرب أوسع من الرياضة، فإنها لن تجني شيئا على جميع المستويات. فلن تستطيع إرضاء شعبها من جهة، ومن جهة ثانية، فإن التأثيرات السلبية لهذا الاستغلال ستمس الرياضة في حد ذاتها.
عندما تسعى السلطة السياسية في دولة ما إلى تحويل أي رياضة شعبية لأداة من أجل تحقيق مآرب أوسع من الرياضة، فإنها لن تجن شيئا على جميع المستويات
يقدم لنا النموذج الجزائري في كرة القدم أمثلة حية في هذا الإطار. فخلال مونديال 2014، حظي منتخب "محاربو الصحراء" بتشجيع كل الشعوب الأفريقية والعربية. ورغم الخلافات السياسية بين الجزائر والمغرب، فإن هذه المناسبة الكروية العالمية أذابت كل الخلافات بين الدولتين والشعبين، واهتزت مقاهي الرباط وطنجة والدار البيضاء ووجدة والسعيدية.. تشجيعا لما قدمه المنتخب الجزائري من أداء كأس العالم بالبرازيل.
كما كان مشهد الفرح والسعادة والتآخي بين الشعبين الشقيقين أكثر بروزا عند فوز الجزائر بكأس إفريقيا سنة 2019، وعند الإنجاز المغربي التاريخي في مونديال قطر 2022. لقد لعبت حينها كرة القدم دورها التربوي كرسالة للسلام والحوار في العلاقة بين الدولتين والشعبين.
مع الأسف، خلال السنوات القليلة الماضية، بدأنا نلحظ سياسة جزائرية قائمة على تحويل كرة القدم لأصل تجاري، خدمة لأغراض سياسية داخلية وخارجية، وهي سياسة مسنودة بتجييش إعلامي غير مسبوق. هذا التجييش لا يؤدي سوى إلى توتير الأجواء من جهة، وإلى نشر خطابات الكراهية من جهة ثانية. والحال أن الرياضة يجب أن تكون مفتاحا للحلول التي فشلت السياسة في تحقيقها أو الوصول إليها، لا أن يجرى توظيفها بشكل سيئ خدمة لأجندات معينة، مكانها من دون شك هو ملاعب السياسة وليس ملاعب كرة القدم.
ولأن التاريخ يعطينا الدروس بالمجان حتى نستفيد منها -إن أردنا ذلك- فقد انعكست محاولات توظيف كرة القدم من طرف السلطات الجزائرية على أداء منتخب "محاربي الصحراء" ونتائجه. فبعدما لم يتمكن من بلوغ نهائيات كأس العالم 2022، لم يتجاوز الدور الأول في كأس إفريقيا لدورتين متتاليتين، والحال أنه حقق قبل ذلك إنجازات عالمية وقارية تليق بمكانته وتاريخه، فماذا حدث حتى يقع هذا التراجع؟ الجواب يكمن بالضبط في الانعكاسات السلبية لمحاولة جعل منتخب كرة القدم يؤدي خدمة ليست من صميم وظائفه، ووضعه تبعا لذلك تحت الضغط الإعلامي.
إن تجربة المنتخب الجزائري تبين لنا ضرورة إبعاد التجييش الإعلامي والسياسي عن كرة القدم والرياضة بشكل عام، حتى تحقق الأخيرة الهدف من وجودها، وتجعلنا جميعا دولا وشعوبا نستفيد من إيجابياتها، باعتبارها وسيلة في عالم اليوم للنهوض بتنمية البلدان وزرع قيم المواطنة وتعزيز مبادئ الحوار والمحبة بين الشعوب، وهي الأدوار التي يجب أن يعمل الإعلام على تحقيقها والوصول إليها، لا أن يغذي عكسها تماما.