عن انتخاب المغرب رئيساً لمجلس حقوق الإنسان بجنيف
لأول مرة في تاريخه انتُخب المغرب، يوم الأربعاء 10 يناير/ كانون الثاني الجاري، رئيساً لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة، بعد حصوله على صوت 30 عضواً من مجموع الأعضاء الـ47 بالمجلس، مقابل ترشيح جنوب أفريقيا الذي حصل على 17 صوتاً.
هذا الانتخاب الذي حظي بدعم 10 دول على الأقل من أصل 13 دولة أفريقية عضو في المجلس، اعتبرته وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج "اعترافاً من قبل المجتمع الدولي" برؤية الملك محمد السادس "في مجال حماية وتعزيز حقوق الإنسان". كما يكشف عن "الثقة والمصداقية التي يحظى بها التحرك الخارجي للمغرب، تحت القيادة الملكية في أفريقيا، وعلى الساحة الدولية، والمنظومة متعددة الأطراف"، يضيف البلاغ نفسه.
وبالإضافة إلى ما جاء في بلاغ الخارجية المغربية، فانتخاب المغرب لرئاسة مجلس حقوق الإنسان بجنيف يحمل العديد من الدلالات والرسائل، كما يعد ثمرة لتخطيط استراتيجي تبنته الرباط على الصعيدين الداخلي والأممي، عبر انخراطها الدائم في مبادرات حقوقية دولية، ومن خلال التفاعل الدائم مع المنظومة الدولية لحماية حقوق الإنسان.
تموقع جيواستراتيجي ورد على الخصوم
أدركت الرباط بشكل مبكر جداً أهمية الانخراط في مجال حماية حقوق الإنسان والنهوض بها على المستوى الوطني. فما حققته البلاد من مكتسبات وإنجازات في هذا الإطار استطاعت من خلاله أن تفرض به نفسها باعتبارها نموذجاً يحتذى به في محيطها الإقليمي والقاري.
منذ بداية عقد تسعينيات القرن الماضي، خطا المغرب خطوات في مسار مراجعة تشريعاته حتى تكون ملاءمة لمعايير المنظومة الدولية لحقوق الإنسان. ثم عقب تولي الملك محمد السادس الحكم خلفاً لوالده الملك الراحل الحسن الثاني، دشّن المغرب ورشاً حقوقية استراتيجية عدة، كان من بينها إعادة الاعتبار للغة الأمازيغية، ومسلسل العدالة الانتقالية بإنصاف ضحايا الاعتقال السياسي، ثم إصلاح مدونة الأسرة، بالإضافة إلى توسيع مجال الحريات العامة... فضلاً عن إقرار مراجعة دستورية سنة 2011 لقيت ترحيباً من طرف القوى المدنية والسياسية الوطنية ومن طرف المنتظم الدولي.
صحيح أن هذا المسار لم يخل أبداً من الانتقادات الحادة من طرف قوى المعارضة والصحافيين وجمعيات المجتمع المدني، لكن قوة النموذج المغربي تكمن في قدرته على استيعابها. بل إن دينامية الجمعيات المغربية على مستوى الآليات الأممية لحماية حقوق الإنسان شكلت مصدر غنى كبيراً لهذا النموذج، إذ إنها تقدم باستمرار تقاريرها أمامها تنتقد من خلالها عدداً من جوانب القصور التي تظهر لها. فإذا كانت عدد من الدول تمنع النشطاء الحقوقيين من التوجه نحو جنيف للمشاركة في دورات مجلس حقوق الإنسان، فإن أعضاء الجمعيات المغربية، من دون استثناء، تتوفر لهم إمكانية تقديم تقاريرهم أمام آليات المجلس، وتنظيم لقاءات مناصرة لقضاياهم في عين المكان، والعودة إلى الرباط دون خوف من الاعتقال أو التوقيف.
هذه الدينامية الحقوقية التي تعرفها المملكة، ورغم جوانب القصور التي يمكن أن تكتنفها، أثمرت "قوة ناعمة"، عززت الرباط من خلالها موقعها الجيواستراتيجي على الصعيدين الدولي والإقليمي. فالحصول على 30 صوتاً من أصل 47 يبرز بجلاء أهمية الدور الذي بات يلعبه المغرب في الساحة الأممية. كما أن هذا الانتخاب يشكل رداً حاسماً على حملات التشهير، التي كانت المملكة المغربية ومؤسساتها عرضة لها منذ صيف 2021، بشكل منسق بين صحافيين لا يخفون عداءهم للمغرب ومنظمات دولية غير حكومية، وصولاً إلى استغلال البرلمان الأوروبي من أجل تصفية حسابات سياسية ضيقة مع الرباط.
عملت الرباط جاهدة على فرض نفسها فاعلاً حقيقياً على الصعيد الإقليمي والدولي في بناء وعي كوني بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان
احتضان الفعاليات الحقوقية الأممية
منذ إقرار دستور 2011، بدا لافتاً رغبة المغرب الأكيدة في إبراز هذه الدينامية الحقوقية على الصعيد الدولي، وعملت الرباط جاهدة على فرض نفسها فاعلاً حقيقياً على الصعيد الإقليمي والدولي، في بناء وعي كوني بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وذلك من خلال احتضان وتنظيم عدد من الملتقيات والفعاليات الدولية ذات العلاقة بمجال حقوق الإنسان، لا سيما على مستوى قضايا الهجرة، وتعزيز قيم التعايش ونبذ الكراهية.
في هذا الإطار، احتضنت مدينة مراكش سنة 2014 الدورة الثانية للمنتدى العالمي لحقوق الإنسان، الذي عرف مشاركة أزيد من 6000 مشارك قدموا من 100 دولة من مختلف قارات العالم، من أجل فتح نقاش نوعي وحقيقي حول الراهن الحقوقي وأفقه المستقبلي، في سبيل إرساء آليات مثلى للنهوض وتطوير ثقافة حقوق الإنسان، وترسيخها لدى شعوب العالم كافة.
وفي المدينة نفسها المعروفة بكونها وجهة سياسية عالمية، جرت أشغال المنتدى العالمي للهجرة والتنمية سنة 2018. وهو المنتدى الذي أثمر "اتفاق مراكش العالمي للهجرة"، الذي اعتمد من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
ملف التعايش بين الأديان ونبذ خطابات الكراهية كانت من المواضيع التي حظيت باهتمام المغرب، وشكلت واحدة من الملفات الرئيسية التي تشتغل عليها الرباط دبلوماسياً على صعيد آليات حماية حقوق الإنسان. فبحضور أزيد من 300 شخصية من علماء المسلمين وممثلي الدول الإسلامية والطوائف الدينية والأديان عبر العالم، جرى إصدار "إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي" سنة 2016، الذي دعا إلى المساواة بين جميع البشر بغض النظر عن الدين.
كما احتضنت مدينة فاس يومي 20 و21 يوليو/ تموز 2022 أشغال الندوة رفيعة المستوى للاحتفال بالذكرى الخامسة لخطة عمل القادة والفاعلين الدينيين في منع التحريض على العنف الذي قد يؤدي إلى ارتكاب جرائم وحشية، والتي نظمتها كل من المندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان (مؤسسة حكومية رسمية)، والرابطة المحمدية للعلماء (المغرب)، ومكتب الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية ومسؤولية الحماية، بحضور الأمين العام للأمم المتحدة.
وفي العاصمة العلمية للمغرب أيضاً خلال السنة نفسها، اختتم المنتدى العالمي التاسع لتحالف الحضارات أشغاله، بحضور الممثل السامي لتحالف الحضارات، ميغيل أنخيل موراتينوس، ووزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، وهو المنتدى الذي تميز بمشاركة وفود رسمية من الدول والحكومات، والشباب والجمعيات، والصحافيين، ووسائل إعلام، وأكاديميين.
بالإضافة إلى ما سبق، فبمبادرة من المغرب، احتفلت الأمم المتحدة يوم 18 يونيو / حزيران سنة 2022، لأول مرة، باليوم الدولي لمكافحة خطاب الكراهية الذي اعتمدته الجمعية العامة في يوليو/ تموز 2021، والذي يقرّ بضرورة مكافحة التمييز وكراهية الأجانب وخطاب الكراهية، ويدعو جميع الجهات الفاعلة ذات الصلة، بما في ذلك الدول، إلى زيادة جهودها للتصدي لهذه الظاهرة، بما يتماشى مع القانون الدولي لحقوق الإنسان.
تفاعل متواصل مع الآليات الأممية
من خلال ما سبق، يتضح أن وصول المغرب لرئاسة مجلس حقوق الإنسان بجنيف لم يكن مجرد صدفة، وإنما نتاج عمل ذي بعد استراتيجي، وتراكم لعدد كبير من المبادرات التي قادتها الدبلوماسية الرسمية والموازية على الصعيد الأممي. عملٌ تعزز طيلة هذه السنوات بالتفاعل المستمر للرباط مع كل الآليات الأممية لحماية حقوق الإنسان، سواء تعلق الأمر بشقها التعاقدي أو غير التعاقدي.
وظل المغرب حريصاً على استقبال المقررين الأمميين الخاصين، وهو الحرص نفسه الذي أبان عنه خلال تفاعله مع آلية الاستعراض الدوري الشامل، التي تلقت في دورتها الرابعة 306 توصيات، من أكثر من 120 دولة، وهو عدد كبير يدل على اهتمام المجتمع الدولي بالإصلاحات التي تنفذها البلاد، تزامناً مع إطلاق مشاريع إصلاحية أخرى، تشمل بلورة نموذج تنموي جديد. في السياق ذاته، حظيت 232 توصية بقبول الرباط، ما كان محط إشادة من طرف المنتظم الدولي.
أما فيما يخص الشق المتعلق بالآليات التعاقدية، فقد انخرط المغرب، منذ 1972، في التفاعل مع هيئات المعاهدات، تماشياً مع التزاماته بموجب الاتفاقيات الدولية، من خلال آلية التقارير التي تحرص الرباط على احترام دوريتها، والمشاركة في الحوارات التفاعلية مع اللجان المعنية بها، وتتبع تنفيذ الملاحظات الختامية الصادرة عنها. وهكذا، قدم المغرب إلى هيئات المعاهدات أزيد من 50 تقريراً أولياً ودورياً.
على صعيد آخر، أقدم المغرب، بتاريخ 24 فبراير 2022، على الانضمام إلى البروتوكول الاختياري الأول الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المعتمد بنيويورك في 16 ديسمبر/ كانون الأول 1966، وإلى البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية القضاء ضد جميع أشكال التمييز ضد المرأة المعتمد بنيويورك في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1999، حيث جرى إيداع وثائق انضمام المغرب لدى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 22 إبريل/ نيسان 2022، ودخلا معاً حيز النفاذ في 22 يوليو/ تموز 2022، وهو ما يمكن اعتباره قراراً شجاعاً شكّل حدثاً حقوقياً كبيراً، ومحطة بارزة في المسار السياسي والحقوقي للمغرب.
واستناداً إلى كل ما سبق، يحمل وصول المغرب إلى رئاسة هذه الهيئة الأممية المرموقة، التي تحمي حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، وتملك صلاحية التدقيق في سجلات حقوق الإنسان للدول، والسماح بإجراء تحقيقات، دلالات متنوّعة، ويبين أن هذا الموقع الذي يحتله في المنظومة الأممية الدولية كان قراراً سياسياً مفكراً فيه بعمق، ووفق رؤية دبلوماسية للمملكة. في المقابل، يضع هذا الانتخاب على عاتق الرباط مسؤولية الاستمرار في نهجها وتطويره وعدم التراجع عنه، وتجاوز الاختلالات التي تعرفها، كما يفرض على جمعيات المجتمع المدني تجويد أدائها بما يواكب هذه الدينامية، عبر رصد المكتسبات المحرزة، وإبراز النواقص التي تعتريها، مع ضرورة التفاعل الإيجابي الرسمي معها في أفق ربح رهان رئاسة المغرب المجلس الأممي.