الدعم الأجنبي للجمعيات في المغرب... بين تجويد القوانين ومحاولات الضبط
بتاريخ 15 يوليو/ تموز 2014، وجه محمد حصاد، وزير الداخلية المغربي الأسبق، اتهامات قوية لمن وصفها بـ"الجمعيات والكيانات الداخلية التي تعمل تحت غطاء الدفاع عن حقوق الإنسان"، مصرحا بأنها "تعد تقارير مغلوطة من أجل دفع بعض الأجهزة والمنظمات الدولية لاتخاذ مواقف معادية لمصالح المملكة المغربية".
لن يقف المسؤول الحكومي عند هذا الحد، بل سوف يخرج عن تحفظه ويجزم بأن الجمعيات التي يقصدها بكلامه دون أن يسميها، "تحظى بالدعم المالي وعدد من المنافع من جهات خارجية كثيرة، وتستقبل أموالا لا يتوفر عليها أكثر من 60 في المائة من الأحزاب السياسية".
لن تمر تصريحات وزير الداخلية السابق مرور الكرام، وسوف تثير العديد من ردود الفعل السلبية في الأوساط الحقوقية. الجمعيات ردت ببيانات شديدة اللهجة، من أبرزها بيان لـ47 منظمة غير حكومية مغربية، استنكرت فيه تصريحات وزير الداخلية، مطالبة الحكومة بـ"الكفّ عن قمع حريات التنظيم والتعبير والتظاهر، بدل التمادي في التحامل على التنظيمات الحقوقية وتصنيفها مع الإرهاب والتطرف".
الردود الحادة للمجتمع المدني كان مردها أساسا حجم الإدانات الموجهة لبعض هيئاته، في خطاب رسمي لمسؤول حكومي، خلال جلسة برلمانية مخصصة للأسئلة الشفوية لمراقبة الحكومة بثت مباشرة عبر الإعلام العمومي. وهو ما دفع محمد حصاد إلى أن يوضح في ما بعد- بعيدا عن "رادارات" الصحافيين وكاميراتهم-، أنه لم يقصد بكلامه كل جمعيات المجتمع المدني، ولم يعمم أحكامه عليها جميعها.
الاشتباك بين الدولة والجمعيات
وشكلت تصريحات وزير الداخلية لحظة مفصلية في العلاقة بين الدولة وجمعيات المجتمع المدني بخصوص موضوع الدعم الأجنبي. فمنذ هذا التاريخ، تحول رهان إعادة تقنين الدعم المالي، المقدم للمنظمات غير الحكومية المحلية من طرف المؤسسات المانحة الدولية، لمحور أساسي في خطابات عدد من المسؤولين الحكوميين.
بعد تصريحات وزير الداخلية، سوف تنشر وسائل إعلام مغربية خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، عزم زميله في "حكومة الإسلاميين" الوزير إدريس الضحاك، الذي كان يشغل حينها منصب الأمين العام للحكومة، على إعداد "حزمة إجراءات إدارية في إطار سعي الحكومة إلى توسيع رقابتها على التمويلات الخارجية التي تستفيد منها الجمعيات". وخلال شهر يناير/ كانون الثاني 2015، أعرب وزير المالية من جهته، في تصريح رسمي أمام البرلمان، عن أسفه لنقص المعطيات الخاصة بالدعم الأجنبي للجمعيات.
أحكام القانون المتعلقة بتنظيم الجمعيات لا تمكن القطاعات الحكومية المعنية من القيام بالتأطير القانوني والإداري للمساعدات الأجنبية المقدمة للجمعيات على الوجه الأكمل
الحكومة الثانية التي قادها الإسلاميون برئاسة سعد الدين العثماني، سوف تعلن بشكل مفاجئ ودون سابق إنذار، عزمها على مناقشة مشروع قانون رقم 20.20 يغير ويتمم ظهير تنظيم حق تأسيس الجمعيات، خلال مجلسها الذي كان مقررا عقده يوم 15 يوليو/ تموز 2021. عدم الإعلان عن مضامين هذا المشروع عبر بوابة الأمانة العامة للحكومة، كما ينص على ذلك قانون الحق في الحصول على المعلومات، سوف يثير شكوك الجمعيات ويدفع أكبر تكتل مدني للجمعيات، وهو "دينامية إعلان الرباط"، إلى اتهام الحكومة بـ"الانقلاب على عدد من المكتسبات الدستورية المتعلقة بالحريات العامة، والحق في المشاركة". في النهاية، سوف تقرر الحكومة سحب هذا المشروع ولن تناقشه أبدا، دون أن تقدم توضيحات بخصوص هذا التراجع.
استمر الحذر والجدل بين الحكومة التي تسعى لإحداث إطار قانوني جديد خاص بالدعم الخارجي للجمعيات الوطنية، والمنظمات غير الحكومية التي تخشى أن يشكل هذا التقنين مدخلا للتضييق عليها في النفاذ إلى هذا الدعم، وتهديدا لحقها في التجمع والتظاهر السلمي.
صحيح أن الجدل بشأن هذا الموضوع قد خفّ بشكل كبير، مقارنة بالفترة ما بين 2014 ونهاية 2015، إلا أنه يطفو إلى السطح من حين إلى آخر. في ظل السياق الحالي، غابت اتهامات السلطة، وبالتالي غابت أيضا ردود فعل الحقوقيين، ما يشجع على النقاش الهادئ والرزين، الذي يمكن من خلاله رصد الإشكاليات المطروحة، وطرح الحلول الممكنة، التي تتوخى تجويد القوانين والممارسات.
الدعم الأجنبي للجمعيات.. إكراهات قانونية
طبقا لأحكام قانون الجمعيات المغربي، فإن المنظمات المحلية ملزمة بأن تصرح للأمانة العامة للحكومة بكل شطر من إجمالي أي إعانة تتلقاها من مؤسسة مانحة دولية، وذلك في أجل أقصاه شهر. ووفقا للبيانات التي صرحت بها الهيئات الجمعوية في هذا الصدد، فإن 273 جمعية قدمت ما مجموعه 787 تصريحا، تفيد بتلقيها مساعدات من جهات أجنبية بلغت قيمتها أكثر من 310 ملايين درهم، وذلك في الفترة ما بين يناير/ كانون الثاني 2020 وأكتوبر/ تشرين الأول من السنة نفسها.
وشملت الأنشطة الممولة من المساعدات الأجنبية مجالات "البنيات التحتية بالعالم القروي"، و"أنشطة الرعاية الاجتماعية والصحية"، و"دعم العمل الجمعوي"، و"حماية الحيوانات والمحافظة على البيئة"، و"تأهيل المرأة وحماية النساء ضد العنف"، فضلا عن "أنشطة ذات طابع حقوقي، وأخرى تطوعية وثقافية"، إلى جانب الأنشطة المرتبطة بـ"التنمية الاجتماعية والاقتصادية"، و"الحفاظ على التراث"، و"الأنشطة التربوية والتعليمية".
التصريح والإعلان عن هذه المعطيات الرسمية لا يعني أن الإطار القانوني المنظم للتصريح بالدعم الأجنبي الذي تتلقاه الجمعيات لا تكتنفه بعض الإشكاليات. إشكاليات تفرض إيجاد حلول لها عبر تجويد القانون والممارسات، درءا لكل ما من شأنه المساس بالحقوق والحريات العامة المنصوص عليها في دستور المملكة المغربية.
فأحكام القانون المتعلقة بتنظيم الجمعيات لا تمكن القطاعات الحكومية المعنية من القيام بالتأطير القانوني والإداري للمساعدات الأجنبية المقدمة للجمعيات على الوجه الأكمل. فالقانون المذكور لا ينص على إلزامية التصريح بالغرض من كل دعم أجنبي مرفقا بالوثائق المثبتة، كما أنه لا يسمح لمصالح الأمانة العامة بمعرفة الجمعيات التي لا تصرح بتلقيها مساعدات من جهات أجنبية.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن القانون المذكور لا يتضمن مقتضيات تمكن المؤسسات الرسمية من ضبط مسار عملية التمويل الأجنبي للجمعيات ليشمل جميع المراحل التي تمر منها. في حين أن وضع آليات قانونية لتتبع ومراقبة الأنشطة والبرامج والمشاريع الممولة من طرف المانحين الدوليين، سوف يضفي شفافية ووضوحا أكثر على العمليات المالية الناجمة عن هذه الإمكانية المتاحة أمام الجمعيات.
الرقمنة.. مفتاح الحل
من حق الحكومة أن تطرح كل ما سبق على طاولة النقاش، ولكنها لا يجب أن تتخذه مبررا أو غطاء للتضييق على العمل الجمعوي، أو محاولة لضبط مجال الدعم الأجنبي للجمعيات وفق رؤية ضيقة. عدم السقوط في هذا المنزلق، لن يتم إلا عبر تجويد النصوص القانونية والممارسات الإدارية، من خلال عدة مداخل، من بينها:
- أولا، رقمنة عملية التصريح بالإعانات الأجنبية للجمعيات لدى مصالح الأمانة العامة للحكومة، عبر إحداث بوابة إلكترونية يمكن للمنظمات غير الحكومية فتح حساب إلكتروني فيها، وعبره تصرح بكل الوثائق والتقارير المنصوص عليها قانونا، دون الاضطرار إلى وضعها لدى الإدارة في نسخ ورقية. فلا يمكن أن تصرح الجمعيات (مثل الشركات)، بتقاريرها المحاسباتية لدى المديرية العامة للضرائب بوزارة المالية عبر بوابة رقمية معدة لهذا الغرض، ولا تقدم مصالح الأمانة العامة للحكومة الخدمة نفسها لمرتفقيها، خصوصا مع إحداث قطاع وزاري في الحكومة الحالية عهد إليه بتحقيق الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة.
رقمنة تصريح الجمعيات بالدعم الدولي ستكون وسيلة ناجعة لتحقيق الشفافية والحكامة، على اعتبار أنها ستوفر قاعدة بيانات مهمة، يمكن وضعها رهن إشارة المواطنين للاطلاع عليها وللباحثين وكل الفاعلين المجتمعيين.. مع العلم أنها لا تتطلب تعديلا في القانون بل تحتاج فقط قرارا سياسيا.
- ثانيا، تعديل القانون في اتجاه التنصيص على ضرورة تصريح الجمعيات لمصالح الأمانة العامة للحكومة بتقرير أدبي ومالي عن كل مشروع يكون ممولا من طرف منظمة أو مؤسسة مانحة دولية، وفق نموذج مبسط يكون معدا لهذا الغرض من طرف الإدارة العمومية. مع التنصيص أيضا في هذا التعديل القانوني على إلزامية التصريح بالغرض من كل دعم أجنبي، مرفقا باتفاقية الشراكة التي تربط بين الجمعية والمؤسسة الدولية الممولة.
- ثالثا، عدم استغلال الإشكاليات المشار إليها بخصوص الدعم الأجنبي للجمعيات، من أجل تعويض مبدأ التصريح المنصوص عليه في قانون الجمعيات المغربي إلى نظام الترخيص القبلي. في المقابل، يجب العمل على تحسين بيئة العمل المدني والحقوقي، من خلال إعادة النظر في فلسفة التمويل العمومي للجمعيات، وفي النظام الضريبي المطبق عليها، والتفاعل الإيجابي مع توصيات المجلس الوطني لحقوق الإنسان باعتباره مؤسسة دستورية في كل ما يتعلق بحرية الجمعيات والحق في التجمع والتظاهر السلمي..، بما يحقق مرامي دستور 2011 الذي عزز أدوار ومكانة المجتمع المدني في مجال تنمية الديمقراطية التشاركية.