قارئة "الموريسكي"
أتلصّص على قارئة في القطار، هي الوحيدة من بين هذه الحشود المهاجرة تحمل في يدها كائناً ورقياً، بينما أخريات يُرضعن الأطفال، ومعظم الركاب منهمكون أيضا بإرضاع أعينهم بفيديوهات تيك توك!
وأنا أرمي بعيني إلى ما بين يديها، تحاول هي تغطيته طيلة الوقت قدر المستطاع، وكأنّ ذراعيها تستطيعان حمايته من طلقات عيني الفضولية.
أحسست بأنني أنتهك حرمة القارئة، فتساءلت: هل يحق لي أن أعرف ما هو الكتاب الذي تحمله في يدها؟ هل تدخل القراءة ضمن ما هو حميمي وخاص، أم هي فعل عمومي لا تجوز تغطيته، أم كما أنه من غير المشروع أن نسكب أعيننا في شاشات هواتف الآخرين ووثائقهم الإدارية وشواهدهم الطبية، لا يحق لنا كذلك التجسّس على كتبهم باعتبارها وثيقة وجودية تعطيك حقائق خطيرة حول تفاصيل البنية الأنطولوجية العميقة للشخصية؟
تنهشني هذه التساؤلات كما يَخِزُني الفضول من الداخل، لذلك أريد أن أرى كلمة أو كلمتين مما تقرأ السيدة في القطار، ربما يسعفني تركيبهما لأخمّن العنوان.
لكن الكلمة وحدها لا تكفي!
لماذا الهاجس هو العنوان؟!
ماذا سيحدث لو أدركت السيدة أنها موضوعي؟ ربما ستنتفض القارئة في وجهي؟ قد لا يعنيها وجودي واهتجاسي، فقد سمعت أنّ القرّاء من هذا النوع لهم أعين أخرى ترى أبعد من البصر العمومي.
تنبعث الكلمات من كتابها كدخان "مجامر" الساحرات الذي لا شكل له ولا رائحة، هل أقرأ الكتاب بها أم أنني بقراءة الكتاب أعبر إليها، إلى السيدة، إلى دواخلها، إلى فكرها وآمالها، أو ربما أعرف وجهتها؟
تقرأ بشكل جدي رهيب، بوجه عبوس يجعل فعل القراءة معها فعلاً لا مجال فيه للمُزاح!
أتخيّل لو تمكننا الكتب من تحديد وجهة المسافرين، فيكون من يقرأ "الخبز الحافي" متوجّها إلى طنجة، آخر هناك يقرأ "قواعد العشق الأربعون" ربما هو ذاهب إلى "وليلي مولاي إدريس زرهون"، أما تلك المسنة المسمّرة عيونها في كتاب "التخنيشة" للتمسماني فإنها تقصد فاس القرآن والقرويين. حاولت أن أعكس اللعبة علّها تأتي بنتائج بخصوص قارئتنا، فيا ترى هل يمكن أن ننطلق من الوجهة لكي نعرف الكِتاب؛ فلو اكتشفنا مثلا أنها متوجّهة نحو الرباط أو سلا؛ لماذا لا يكون عنوان الكتاب "الموريسكيون"، أو ربما "قراصنة سلا"، أو "رباط المتنبي"، من يدري؟!
عدت بعد هذه اللعبة التخييلية (التي داويْتُ بها يأسي) إلى محاولاتي الفاشلة في اقتناص الكلمات من القارئة، وإذا كانت هناك من فوائد من هذا الفشل، فهي أنني اكتشفت عجز عيني بتشخيص مجاني غير مشروع، ففي كل نظرة "وَطلّة" تتناثر الكلمات وتصير بلا شكل وبلا معنى.
إنها تقرأ بشكل جدي رهيب، بوجه عبوس يجعل فعل القراءة معها فعلا لا مجال فيه للمُزاح! أسُوسُ فضولي وألجمه كي لا يثير حمِيّتها على كتابها الذي تحمله كجنين جائع ترضعه.
منهمكة، لا همّ لها بسرعة القطار، ولا بمنظر الأنهار، ولا بعظمة الأبراج في ضاحية وادي أبي رقراق كأن لسان حالها يقول: "فليذهب القطار والركاب والمناظر والأبراج وكلّ ما حولي إلى الجحيم، أنا في سكة أخرى مغايرة لسكة القطار، حولي أشياء ينسجها الكتاب من حولي ويعزلني بها عن عالمي، أو بالأحرى؛ عالمكم المُمَسْرَح والمُستهلَك في التسوّق والدردشة والرضاعة والمحاكم والثورات والحروب والمكائد.. أنتم في حركة وأنا في سكون" .
أخيرا توقّف القطار، محطة الرباط المدينة، غُلّقَتْ الكتب،
إنها تقرأ "الموريسكي" (رواية لحسن أوريد).