الأدبُ وسيرة الإنسان
"إنّ ما يجعل الإنسان كائنًا فعالًا، هم أولئك الذين ينجحون في تحمّل شغفِ الحياة في ظروفٍ صحراوية".
إذا أردتَ اختبار صلاحية هذا القول الذي جهرت به الفيلسوفة، حنّة أرندت، فما عليك إلّا قراءة روايات لأدباء من الجنوب الشرقي في المغرب. وخير مثال على ذلك، رواية "باسو" لكاتبها محمد برشي رحمة الله عليه، التي هي بدورها قراءة للحالة الأنطولوجية لشخصيةِ الإنسان المغاربي، وإنسان الجنوب الشرقي خصوصًا، وذلك من خلال البطل "باسو". نحن هنا أمام صورة بانورامية (لا أقول مأساوية)، احتفالية وإيروسية كذلك، لحياةِ هذا الكائن الموزّع بين تيمات أساسية، أو لنسمِّها جبهات قتال، أو مسارات موضوعاتية: الدراسة، العطالة، الهجرة، العلاقة بالمرأة، العلاقة بالثقافة، مسارات تكتنفها حكايات وعلاقات مع شخصياتٍ أخرى، تُدخل الحيوية على جوّ أدب هذه المنطقة بصفةٍ عامة، ورواية "باسو" خصوصاً. كذلك فإنّها تساهم في إنتاجِ حدثها السردي، فتلك الموضوعات هي الكلمات/ المفاتيح التي يمكن أن نقرأ بها الرواية. فهي عملٌ ممتعٌ يحتفي بالتحوّل المُلازم لشخصيةِ وحياة الإنسان المقيم في منطقة الجنوب الشرقي من المغرب، الحياة القلقة التي لا ترتاح لإيقاعِ الرتابة، بل تلك التي تعتنق دومًا الصخب، اللاطمأنينة، الحركة، الهجرة... ذلك الإنسان المحكوم عليه بالانتقال دوماً، فمنذ فترة الدراسة يداهمه شبح المغادرة إلى المراكز التي توجد فيها الثانويات، ثم بعد ذلك إلى المدن التي تحتضنُ المراكز الجامعية، وبعدها يكبر هوس الهجرة ويُولد حلم الانتقال الكبير إلى الضفة الأخرى من أنفسنا، إلى أوروبا.
هذا الترحال الحاكم للبنية النفسية والوجودية لإنسانِ الجنوب الشرقي من خلال شخصيات الرواية يتم بوسائل متعدّدة، منها الزواج، إتمام الدراسة، إلخ. أيضاً، تحتفي الرواية بالهجرة والتحوّل عبر الفضاءات والجغرافيات، وهذا وارد بكثافة في صفحاتها، حيث يطوفُ بنا الكاتب ويجول بنا في مدن وأماكن واقعية متعدّدة ومختلفة، إنّه يجعلك تسافر وأنت جالس في مكانك، ليعبر بك نحو فضاءاتٍ متعدّدةٍ بالمدن الأوروبية من مطاعم، ومرافق فنية، وبنايات سكنية، في مونبيليه، وستراسبورغ، وبرشلونة... ليعود بك في لحظاتٍ أخرى إلى زايدة، فاس، ورزازات، وعبرهما إلى تافسباست وايت عيسى وإبراهيم، وغيرهما من المناطق في الجنوب الشرقي للمغرب.
يترجم أديب الجنوب الشرقي في المغرب إلى كلماتٍ، ما يشعر به في صمتٍ كلّ كائن في تلك المنطقة
ويستحضر الكاتب، محمد برشي، على وجهِ الخصوص هذه الفضاءات الأخيرة (كغيره من كتّاب المنطقة)، لا باعتبارها مسرحًا لنسجِ أحداث الرواية، بل يستحضرها تاريخًا وذاكرةً وتحدّيًا اقتصاديًا يدفع الشباب نحو الهجرة بقدر ما يصوّرها كجادبٍ ثقافي وعاطفي يجذبهم نحو الحنين والعودة، ولكنها عودة مسكونة بالمسافة، حيث إنّ تجربة الهجرة تفعل فعلها في البنيةِ الذهنية للكائن وتجعله يتطبّع بطبيعةٍ ثانية. ولذلك فإنّ التحوّل لازم شخصية "باسو" منذ انتقاله إلى مكناس، وهو تحوّل تعمّق بعد هجرته إلى فرنسا بفضل زواجه من "سهام"، وذهب بعيدًا ليمسّ بنيته العقائدية والثقافية، ونأخذ من هذه الرواية اقتباسًا شاهدًا على التأويل، حيت يقول السارد في الصفحة 182: "مغربي نجح في التأقلم التام مع المجتمع الفرنسي، ساعده في ذلك اعترافه بفضل فرنسا عليه بعدما أنقذته من حياةِ التشرّد والضياع... ساعده أيضًا عدم تدينه لأنّ الدين في نظره دائمًا ما يكون عقبة أمام اندماج الغرباء في بلدان الاستقبال مهما طالت مدة إقامتهم...".
تتخلّل هذه الرواية، وروايات عديدة لأدباء من الجنوب الشرقي للمغرب، لحظات من التأمل الذي يعالج قضايا اندماج المهاجرين، والعلاقة بالمرأة، والعلاقة بالثقافات المحلية والأجنبية، كما يجعلنا نرى حياةَ المهاجرين هناك بكلّ تفاصيلها. تلك الحياة التي يخترقها الانفصام الثقافي والإيديولوجي، إذ تبقى ممارساتهم في تجاذبٍ بين النهلِ من الثقافة التقليدية المحليّة التي حملوها في صدورهم من مناطقهم، والتي تكرّس مواقف محافظة (في أغلبها) تجاه المرأة، وتزكي تفوّق الرجل، بما يتضاد مع ثقافةٍ حديثة، هم مجورين قانونيًا بإنتاج الممارسات المطابقة لروحها (احترام استقلالية المرأة، الحرية، المساواة...). وهذا الصراع الثقافي تجّسدَ في علاقة البطل باسو بزوجته سهام لكونه مسارًا زواجيًا دراميًا يعرض مآلًا مأساويًا لزواجِ ابن البلد بالفتاة المهاجرة، وما يحيط به من مآزق: سوء التفاهم، تنافر الميول، اصطدام الثقافات، مشكلات المحيط.. ما أفرز تجربةً فاشلة دفعت بطلنا إلى بناءِ تجربةٍ ناجحة على أنقاضها، وهذا تمامًا منطوق أحد الحوارات في الرواية "معك حق فأغلب التجارب الناجحة تبنى على أنقاض نظيراتها الفاشلة".
الموت هو الوحيد القادر على إيقاظِ خصلة التسامح من سباتها العميق في نفسِ الإنسان
وإذا كان السارد يصوّر سهام رمزًا للغدر وسببًا للمعاناة والمصير المأساوي، فإنّه يجعل من شخصية كارولين، أستاذة باسو الفرنسية، وزوجته الثانية بعد انفصاله الدرامي عن سهام والسفر إلى ستراسبورغ، بمثابةِ المخلّص له من مأساته والمحفّز له على تغيير نمط حياته، الذي بدأ بإقلاعه عن التدخين، وممارسة الرياضة، والاستمرار في الدراسة والحصول على دبلوماتٍ مهنيةٍ وأكاديمية، من بينها الماستر، ومن ثمّ الزواج بكارولين والعيش في جوٍّ جعل من أيّامه لوحات فنيّة مزخرفة بألوانٍ وردية، لكنّها لحظات يكسرها نبأ الموت، هذا الغول الذي يدخل علينا دون استئذان، والذي يُباغتنا خبره لينغّص علينا كلّ لحظةٍ، احتفاءً بالذات والآخر. وتحضر هذه اللحظة في مناسبتين، موت الأم في تافسباست، وموت الزوجة السابقة سهام الذي جعل الرواية تنتهي بخطاب لها عبر رسالة غفران، كتبتها لباسو وهي على فراش الاحتضار، ما جعل الكتابة طريقًا للغفران والتطهير، تقول: "ما شجعني على الكتابة إليك لأطلب غفرانك... المحتضرة سهام".
رغم هذا تحتفي الرواية بالموت، وتجعله ذا وجه إيجابي يدفع نحو التسامح، فالموتُ هو الوحيد القادر على إيقاظِ خصلة التسامح من سباتها العميق في نفس الإنسان.
تعكسُ هذه الرواية مفارقات الرجل المغربي، ووضعية المرأة بين المجتمع الفرنسي والمغربي، كما تُبيّن دور المصلحة في قتلِ العاطفة، كما تجعل المستفيد منها يقبل رغم أنفه شروط من ارتبطت به مصلحته. ويوجد في الرواية أيضًا هاجسٌ توثيقي وتأريخي ومعرفي من حيث التأريخ لثقافة المنطقة وتقاليدها وثقل ذلك التراث، وإلى أيّ حدّ ما زال يفعل ويؤثر في الحاضر. ولذلك تشكل الرواية احتفاءً واحتفالًا بهذا الموروث كما لا تخلو من نفحاتٍ نقديةٍ ومحاولاتٍ تحليلية، تفكيكيةٍ لشخصية ومزاج وأحلام إنسان الجنوب الشرقي للمغرب، في محاولةٍ لتسليطِ الضوء على مناطق العتمة، ورسم لوحةٍ سردية تجعل من إنسان هذه المناطق جديرًا بالكتابة وإنتاج تجارب سردية، وهذا ما يجعلني لا أخجل من وصفها بما وصف به، بانكاج ميشرا، ما قام به باكونين حين قال: "باكونين ترجم إلى كلمات ما كان يشعر به في صمت الفلاح الروسي أو الإيطالي الذي لا يملك أرضًا أو العامل الإسباني تجاه حضارة شيّدت على حسابه"، لنقول إنّ أديب الجنوب الشرقي يترجم إلى كلمات ما يشعر به في صمتٍ كلّ كائن في تلك المنطقة.