في موت "كونديرا" الذي يجب ألّا يصدم أحداً
يأتي الكتّاب ليقولوا كلمة ويذهبوا، إنهم أصحاب نداء ما. نداء لا يخصّ ثقافتهم في شيء، إنه يعني الإنسانية كلّها، لأنّ الكاتب موّظف لدى العقل الكوني، حتى ولو نطقه بلسان محلّي. فالروائي مثلاً عبارة عن تقنية يقول بها العالم عوضاً عن الغافلين عن همومه، وآلية تحريك للراسب منعاً لأيّة إرادة استئناس كسولة بالتقليد، ولأيّ تصنيم من شأنه صناعة آلهة جدد فوق الأرض، لأنّ الأرض لا تتحمّل آلهة أرضيين، ولذلك تُشكل الروايات التي ينتجها الكتّاب كالتشيكي ميلان كونديرا الذي غادر العالم في يوليو/ تموز 2023، أكبر نقيض للعالم الشمولي، ولمبدأ الوحدة والحقيقة. فالرواية في تصوّر هذا الأخير مؤسّسة على نسبية الأشياء والتباسها، وهي تناقض العالم الشمولي مناقضة أنطولوجية، حيث الرواية تقوم على تعدّد الحقائق كما يتخلّلها الشك والسؤال واللايقين، كلّ شيء فيها متوّقع، واللامتوقع هو الأكثر اقتراباً من الوقوع. إنّ الأدباء عمّال الاكتشاف، اكتشاف المفارقات التي يصدح بها الوجود، كائنات كهربائية تنبع من صواعق ليس بالضرورة صادمة، ولكن إلى حدّ ما مضيئة للجوانب المعتمة في أنفسنا، أو في أماكننا، وفي عالمنا عموماً.
إنهم مقاومو الاختزال الذي ينخر الحياة الإنسانية منذ الأزل، لنسمع لكونديرا وهو يصرخ ضد هذه الإرادة، حيث يؤكد أنّ هناك رغبة في توحيد تاريخ كوكب الأرض، هذا الحلم الإنسانوي الذي أباحه الإله بقسوة تحقّقه، تصاحبه سيرورة اختزال هائل، حتى إنّ أكبر حبّ ينتهي باختزاله في هيكل ذكريات هزيلة. غير أنّ طبيعة المجتمع الحديث تقوّي ببشاعة هذه اللعنة، فحياة الإنسان اختزلت في وظيفته الاجتماعية، واختزل تاريخ شعب ما في بضعة أحداث اختزلت بدورها في تأويل مغرض، والحياة الاجتماعية اختزلت في الصراع السياسي الذي اختزل هو أيضا في المواجهة بين قوتين كبيرتين فقط..
إن الإنسان يوجد في دوامة اختزال حقيقية، يغدو فيها على نحو مشؤوم "عالم الحياة" الذي تحدث عنه الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل، مظلماً، وفيها يسقط الوجود في النسيان. إنّ روح الكاتب والروائي الحقيقي حسب ميلان كونديرا، يجب أن تكون روح التعقيد وليس روح الاختزال، أن يقول للقارئ :"الأشياء أشدّ تعقيداً مما تتصوّر".
إنّ روح الكاتب والروائي الحقيقي حسب ميلان كونديرا، يجب أن تكون روح التعقيد وليس روح الاختزال
الروائي، والرواية كذلك، من المنظور الكونديري، رؤية أو فهم معيّن للعالم، عين ترى أبعد مما يراه العقل اليومي وأبعد من البصر العمومي، إنّه نداء من النداءات غير المسموعة. والنداء، حتى وإن لم يبلغ مقصوده، يبقى منتشراً في الأرجاء، يلتقطه من لم يكن يبحث عنه.
وللروائي حسب كونديرا أربعة نداءات، وهي:
(1): نداء اللعب، إنتاج الاحتمالات والخفّة التي تتيح إنتاج تاريخ آخر.
(2): نداء الحلم، المزج بين الحلم والواقع، حيث الرواية هي المكان الذي يمكن فيه للخيال أن يتفجر مثلما يتفجر في الحلم، وأنّ الرواية يمكن أن تتحرّر من إلزام الاحتمال.
(3): نداء الفكر، تحريك كلّ الوسائل المعقولة واللامعقولة، السردية والتأملية، التي يمكنها أن تضيء وجود الإنسان.
(4): نداء الزمن، توسيع مسألة الزمن لتشمل الزمن الجماعي وإدخال حقب تاريخية عديدة في فضاء الحياة الراهنة.
غالباً ما تكون للمفكر كينونة خاصة، إنه يموت باستمرار ليحيي ثقافته، لقد تدرب على الموت بشكل جيّد.
ماذا عن موت أصحاب هذه النداءات كالكاتب التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا صاحب "الكائن الذي لا تحتمل خفته" "والبطء" و"فن الرواية" وغيرها من المنتجات التي جاد بها على الوجود؟
أقول إنّ موت مثل هؤلاء عَرَض لأنهم كائنات فكرية وليست مجرّد ذوات آدمية، ولذا عليه أن لا يصدمنا لأنه موت مسكون بالحياة. فلماذا موت المفكرين غير شخصي، ولماذا فناؤهم عرض؟
فناء المفكر عَرَض، لأنه أبداً لم يكن هنا معنا، وغالباً ما تكون للمفكر كينونة خاصة، إنه يموت باستمرار ليحيي ثقافته، لقد تدرب على الموت بشكل جيّد. ما كان سعيه إلا أن يدرّب الآخرين على ذلك، وهو في حياته دوماً في حالة ترحّم على الأحياء لإيقاظهم. وما الموت إلا إعلان وإحياء لمؤلفات المؤلف.
الكاتب لا يموت، لأنه لا يمكن أن نتركه أبداً خلفنا، إنه في الأمام دائماً، في المستقبل سنلتقي به يوماً ما حين نلتقي بأح نداءاته، سنلتقي به في كلّ مرّة نقف أمام فكرة أو رؤية قالها وهي تتحقّق، سنلتقي به في أناس آخرين قرؤوه وفكروا فيه وبه، سنلتقيه في الكليات والمكتبات والترجمات والندوات، سنلتقي به في الحلم حينما نحلم... ولذلك على الموت في هذه الحالة ألا يصدمنا، ولا بأس أن نُسقط على موت كونديرا تصوّره لموت الرواية، يتعلّق الأمر كما يقول: "بموت مكتوم لا يثير انتباه أحد ولا يصدم أحداً".
لا ترقد يا كونديرا... افتح عيون الأحياء وترحم عليهم.