في فضل الوحدة والاعتزال عن الناس
هل جرب أحدنا يوما الجلوس وحده، لمدة تربو على يوم أو يومين، من دون الحديث إلى أي كان، ومن دون قراءة الأخبار، أو حتى قراءة الكتب أو الجرائد، أو تصفح مواقع الإنترنت.
هل تساءل أحد منا يوماً، ما الذي قد يحصل لو فعلنا هذا الأمر، قد يعتقد البعض أننا سنجنّ، لكن ماذا لو كان الأمر عكس ذلك، ماذا لو كانت تلك هي الطريقة الوحيدة لجعل ذهننا يشتغل في أفضل حال، ماذا لو كانت تلك هي الطريقة الوحيدة لوصول درجة الكشف عند الصوفية، أو درجة العصف الذهني والإلهام عند الفلاسفة، كيف ستكون نظرتك للحياة بعد أن تطبق هذا الأمر، أم ترانا نخشى أن نوصف بما وصف به زرادشت، وذلك بعدما عاد من الجبل يصرخ في الناس ويعظهم، وهم ينعتونه بالجنون.
مهلا، ماذا لو كانت هذه العزلة تمتد لشهور، وذلك في البرية والصحاري، حتما سنتحول إلى مجانين العقلاء، أليس كذلك؟
في كتابها المسار، والذي هو عبارة عن مذكرات، تحكي روبن دافيدسون عن رحلتها في غرب أستراليا، والتي امتدت لشهور، لم يرافقها في الرحلة أحد، غير أربعة جمال، ومن حين لآخر كان يلتقي بها صحافي، ليلتقط لها صورا بغية إرسالها لمجلة، غير أنها كانت تظل شهورا لا تتحدث سوى إلى جمالها، أو كلبها المرافق لها، هناك حيث اكتشفت كيف أننا لا يمكن أن نشعر بعمق الارتباط بالناس إلا حينما نبتعد عنهم، حينما نكون على مسافة منهم، ندرك مدى عمق العلاقة التي تربطنا بالناس من حولنا، كما تصرح بذلك لمجلة "التايمز"، وهذا الشعور هو الذي راود الكثيرين منا في فترة الحجر الصحي، حيث أننا أصبحنا ندرك مدى قيمة وجود الآخرين في حياتنا، ووجودنا في حياتهم أيضا، فالعزلة هي التي تجعلنا ندرك قيمة هذه العلاقة.
جميع العظماء مارسوا العزلة، بل إن أفضل الأفكار، هي تلك التي أتتهم وهم يتجولون بين الحقول والجبال، بعيدا عن ضجيج الناس والحياة
في القرآن الكريم هناك آيات عجيبة تتحدث عن مدى فضل العزلة والابتعاد عن الناس من حين لآخر، وكأن فيها تنبيها على أن تعلقنا بالآخرين، وارتباطنا بهم طول الوقت، قد لا يجعلنا ندرك مدى قيمة الأشياء من حولنا، حرصنا دائما على أن نكون محل رضى من الآخرين، قد لا يجعلنا ننظر إلى ما بداخلنا من عوالم، إلى تأمل ذواتنا، وتأمل الحقائق من حولنا. فمثلا الآية الكريمة التي تخاطب الناس أنهم إذا أرادوا معرفة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس بمجنون، أن عليهم أن يقوموا لله مثنى وثلاث ورباع، ثم يتفكروا أن ما بصاحبهم من جنة، وهذا الأمر مؤكد في علم النفس الاجتماعي، وذلك أن للجماعة تأثيراً على الفرد، بحيث أنه قد يصرح بخلاف ما يؤمن به مخافة الإقصاء من الجماعة.
في رحلتها تلك، اقتربت روبن دافيدسون أكثر من ذاتها، حيث إنها داخل الصحاري والقفار كانت تشعر بحرية أكثر، تتأمل ذاتها، تقيم كل شيء في حياتها، تسترجع ذكرياتها بشيء من الهدوء، ومن خلالها تقترب أكثر من حقيقتها، في كثير من الأحيان، نكون مأسورين داخل ذكرياتنا من غير أن ندرك ذلك، نكون سجناء لحظات عشناها ونحن غير واعين بها، نجعلها تسرق منا حياتنا، الرهبة، القلق الدائم، السعي نحو سراب حلم الطفولة الذي تشكل في ذهننا ونحن لم نعرف ما الحياة بعد، احترام قيود فرضت علينا ونحن أطفال، من غير أن يكون لنا حول ولا قوة في تغييرها، غير أنها ظلت تحكمنا. العزلة والابتعاد عن الناس، هي الطريق الوحيد لمراجعة النفس، لإعادة ترتيب أولوياتها، لإعادة تشكيل وعينا للحياة، لإعادة فهم الأشياء من حولنا بشكل جيد.
جميع العظماء مارسوا العزلة، بل إن أفضل الأفكار هي تلك التي أتتهم وهم يتجولون بين الحقول والجبال، بعيدا عن ضجيج الناس والحياة، بعيدا عن سخافتهم ومشاكلهم اليومية، حينها نكون في انسجام تام مع الكون، وحيث يكون الذهن صافيا، وغير مراقب، نستطيع التفكير والنقاش بحرية، عبر حوارات داخلية نفسية.
إدراك الفلاسفة لهذا الأمر هو الذي جعلهم ويجعلهم يعيشون في منأى عن الناس، منعزلون وحدهم، أستحضر هنا صورة هايدجر وهو يحمل سطلا من الماء، قرب أحد الأكواخ في ريف ألمانيا. العزلة هي رجوع إلى حقيقة الذات، رجوع إلى حالة الإنسان الأول، وطرح سؤال من نحن.