الفلسفة والديمقراطية: في النقد "غير" الديمقراطي للديمقراطية

24 مايو 2023
+ الخط -

في إطار فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب 2023، نظم معهد تونس للفلسفة، يوم الخميس 4 مايو/ أيار، ندوةً بعنوان "الفلسفة والديمقراطية" أدارها فتحي التريكي، وقدّم مداخلات فيها كل من حميِّد بن عزيزة، الذي كانت مداخلته بعنوان "الديمقراطية نموذجٌ منهكٌ"، ومحمد أبو هاشم محجوب، الذي تحدث عن "نهاية الديمقراطية وبداية الفلسفة؟"، ومحمد الشريف فرجاني، الذي تحدّث عن "مفارقة الديمقراطية بوصفها أسوأ نظام باستثناء كلّ النظم الأخرى"، كما قال وينستون تشرشل.

تضمنت مداخلة بن عزيزة سردًا لأقوال عددٍ كبيرٍ من المفكرين والفلاسفة عمومًا، والأوروبيين والفرنسيين منهم خصوصًا، عن سلبيات الديمقراطية (التمثيلية) المعاصرة، وعن الأسباب أو المسوِّغات التي تدفع كثيرين إلى "كراهية الديمقراطية"، وفقًا لعنوان كتاب جاك رانسيير.

وفي الاتجاه ذاته، تحدّث محجوب عن "معضلات الديمقراطية"، ورأى أنّ إحدى أهم علامات "نهاية الديمقراطية" تكمن في أنه على الرغم من أنه يبدو أنّ الفرد لديه حريةٌ شبه مطلقةٍ وخياراتٌ لا متناهية، يمكنه، من حيث المبدأ وفعليًّا، اختيار ما يراه مناسبًا منها، فإنّ التحليل يُظهر أنّ حرية الإنسان تتخذ عمليًّا صيغة اختيار شكل الخضوع، وأنه، بالتالي، خاضعٌ غير حرٍّ عمومًا، بسبب التدخل القوي، الخفي أو الصريح، للسلطة الخارجية في إرادة الأفراد. وشدّد محجوب على أنّ دور الفلسفة يكمن، تحديدًا، في الكشف عن هذا التدخل الخفي للسلطة، وعن تأثيره السلبي في حياة الإنسان الفرد، بوصفه، وبوصف حرياته، الأسّ الأول أو الأهم في أيّ ديمقراطيةٍ، بالمعنى الحديث والدقيق للكلمة.

ليس هناك في الدين ما يمنع، حتمًا وبالضرورة، من تبني الديمقراطية، بأسسها الليبرالية

في مداخلته، أشار فرجاني إلى أنه تناول، بالتفصيل، معضلات الديمقراطية، في كتابه المعاد إصداره حديثًا "السياسي والديني في المجال الإسلامي" (2023)، وكتابه الصادر قبل عامين، بالفرنسية، "الليبرالية الجديدة والثورة المحافظة" (2021).

وانطلق فرجاني من تعريف الديمقراطية في الدستور الأميركي، بوصفها "حكم الشعب، من أجل الشعب، من طرف الشعب"، ليشدّد على البون الشاسع بين ذلك التعريف النظري والواقع الأميركي العملي، ويبرز وجود صعوبةٍ مبدئيةٍ حقيقيةٍ في قيام ديمقراطيةٍ بالمعنى الدقيق أو الكامل للكلمة. وقدّم قراءةً مكثفةً وشاملةً للتجارب الديمقراطية، وبين مدى ابتعادها عن المثال الديمقراطي، وأبرز الهوة الفاصلة بين تعريف الديمقراطية نظريًّا، وتطبيقها عمليًّا. لكن القول بوجود هذه الهوة لا يعني، عند فرجاني، التخلّي عن الديمقراطية أو الاستسلام للهوة المذكورة، بل يعني ضرورة الوعي بالجدل الإيجابي الممكن بين ممارسة الديمقراطية وإنتاج الديمقراطية.

وختم فرجاني مداخلته بالتشديد على ضرورة نقد الديمقراطية التمثيلية، ليس من موقع "الديمقراطية الحقيقية المزعومة" التي أنتجت موسوليني، بل من موقع أنها، أو ينبغي أن تكون فعلًا، حكم أغلبية مواطنين أحرارٍ ومتساوين. وهي لم تكن كذلك، منذ عهد اليونان حتى الآن، في معظم الأحوال على الأقل.

كلّ هذه الانتقادات وغيرها التي تضمنتها مداخلة المشاركين الثلاثة كانت نقدًا للديمقراطية من موقعٍ أو منطلقٍ ديمقراطيٍّ. والاستثناء الوحيد أو الأبرز ظهر في البعد العلماني الإقصائي لتعقيب فتحي التريكي على مداخلة محمد محجوب. فقد رأى التريكي أنه بما أنّ مرجعية الديمقراطية هي الفرد وليس الجماعة، فإنه من المستحيل أن تستطيع الأديان، كلّ الأديان، أن تكون ديمقراطيةً، لأنها لا تستطيع الإعلان عن أولية أو أولوية الفرد على الجماعة.

في تعقيبي على المداخلات الثلاث، أشرت إلى أنّ رؤية التريكي تتضمن نزعةً جوهرانيةً، ليست دقيقةً، لا نظريًّا ولا عمليًّا، فليس هناك في الدين ما يمنع، حتمًا وبالضرورة، من تبني الديمقراطية، بأسسها الليبرالية، كما أنّ التاريخ شهد على أنّ دين متدينين كثر متناغمٌ مع الديمقراطية. وأعطيت مثال المسيحية السياسية في ألمانيا للتدليل على ذلك. 

على الرغم من الانتقادات الكثيرة والكبيرة للديمقراطية التي تضمنتها الندوة، فقد كان مفاجئًا أن يبدأ أحد الأشخاص نقده للندوة بأنها اقتصرت على تقديس الديمقراطية. وقد زال العجب واتضح السبب سريعًا، عندما تبيّن أن ذلك الشخص ينتمي إلى "حزب التحرير" الإسلامي المناهض، بوضوحٍ وصراحةٍ، للديمقراطية، والساعي، علنًا، إلى إقامة "الخلافة الإسلامية". فالنقد الذي تتضمنه أيديولوجيا هذا الحزب أكثر جذريةً، ولا يتأسّس على أي تبنٍ أو تقييمٍ إيجابيٍّ للديمقراطية. ولهذا بدا لممثلي "حزب التحرير" الذين حضروا الندوة أنّ تلك الندوة كانت تتضمن "تقديسًا للديمقراطية"، لا نقدًا لها.

كيف نطالب بالديمقراطية واحترام الاختلاف والتعدّدية، في الوقت نفسه الذي نعلن فيه رفضنا للديمقراطية ولما تتضمنه من احترامٍ للاختلاف والتعددية؟

لقي تعقيب ممثل "حزب التحرير" ومحاولته توزيع بعض كتب حزبه على المشاركين في الندوة نقدًا شديدًا من فرجاني ومحجوب، خصوصًا. وتحوّل المشهد فجأةٍ إلى جدالٍ علمانيٍ إسلاميٍّ يعبّر عن الانقسام السلبي والسيئ الحاصل بين هؤلاء الطرفين، في العالم العربي عمومًا، وفي تونس خصوصًا.

وربما تجسّدت النتيجة السلبية لذلك الانقسام أو الصراع في قول محجوب إنه كان ليمتنع عن نقد الديمقراطية لو علم بوجود أو حضور هذا التيار والنقد غير الديمقراطيين. المفارقة الطريفة هنا أنّ ممثلي "حزب التحرير" انتقدوا ردود الفعل الغاضبة عليهم بأنها غير ديمقراطية أو لا تحترم الاختلاف والتعددية، رغم أنّ إيديولوجية حزبهم ترفض الديمقراطية، علنًا، وتسعى إلى إحلال الخلافة محلها. ويصعب أخذ هذا الانتقاد بجديةٍ: إذ لا يبدو مفهومًا أو مسوَّغًا كيف نطالب بالديمقراطية واحترام الاختلاف والتعدّدية، في الوقت نفسه الذي نعلن فيه رفضنا للديمقراطية ولما تتضمنه من احترامٍ للاختلاف والتعددية؟

لقد حاول التريكي، بوصفه رئيسًا للندوة، أن يكون ديمقراطيًّا ومتقبّلًا لكلّ الآراء، قدر المستطاع. لكن ثمّة من طرح التساؤلات عن معقولية ممارسة التسامح الديمقراطي مع من يعلن، صراحةً، رفضه للديمقراطية ولتسامحها.

وفي حديثٍ لاحقٍ مع آمال قرامي، وهي إحدى الشخصيات العلمانية والنسوية البارزة، فوجئتُ وسررتُ بأنها ترى ضرورة السماح لهؤلاء الإسلاميين المعادين للديمقراطية بالحضور، طالما أنهم يقتصرون على الكلام ولا يلجؤون إلى العنف (المادي)، وشدّدت على ضرورة ممارسة التسامح إلى أقصى حد ممكنٍ، وتجنب استسهال إقصاء المختلفين من مجالنا الفكري وحتى البصري. وكذلك كان الحال مع فرجاني، الذي شدّد في حديث معي لاحقًا، على ضرورة السماح للجميع بالوجود والحضور في المجال العام، السياسي، بقدر الالتزام بالحدّ الأدنى المطلوب والمتمثل في الابتعاد عن العنف أو إكراه الآخرين المختلفين وقسرهم. لكن تساءل آخرون عن معنى سماح السلطات السياسية والأمنية لـ"حزب التحرير" بممارسة نشاطه الفكري السياسي بحريةٍ، في الوقت نفسه الذي تعتقل فيه تلك السلطات راشد الغنوشي، أحد أبرز أعلام "الإسلام السياسي الديمقراطي"، وتضيِّق على حزبه السياسي، على الرغم من تبنيه الصريح أو المعلن للديمقراطية، نظريًّا وعمليًّا!

الجدير بالذكر، في هذا السياق، هو أنّ "حزب التحرير" كان، كحال معظم الأحزاب السياسية، محظورًا في تونس، قبل قيام الثورة التونسية، وتعرّض بعض المنتمين إليه للملاحقة والاعتقال وللعديد من المحاكمات (في أعوام 1983، 1990، 2007، 2009). وقد رُفض طلب الترخيص الذي تقدّم به الحزب لاحقاً بعد الثورة التونسية من قبل وزارة الداخلية في عهد حكومة الباجي القائد السبسي، استناداً إلى المادة الثالثة من الدستور، قبل أن يحظى بالشرعية أو بالتأشيرة من حكومة حمادي الجبالي، أمين عام حزب حركة "النهضة" الإسلامي الحاكم في تونس. فهل شفعت إسلامية الحزب رفضه للديمقراطية لدى مانحي ذلك الحزب المشروعية القانونية؟

لم يتضمن تسجيل الندوة المنشور ما حدث فيها، في هذا الخصوص، كما أنّ القائمين على الندوة حذفوا النقد الجريء، الصريح والمباشر، الذي وجهه فرجاني للرئيس التونسي الحالي قيس سعيِّد، ليس لأنهم يؤّيدون ممارسات هذا الرئيس (فقد تضمنت مداخلات محجوب والتريكي نقدًا واضحًا له، بدون ذكر اسمه) وإنما، على الأرجح، لأنهم يخشون من النتائج التي يمكن أن تترتب على نقد الرئيس التونسي، وذكر اسمه، في هذا السياق، بهذه الطريقة.

على الرغم من أنّ مسار التحوّل الديمقراطي يمر حاليًّا، من وجهة نظر كثيرين، بحالة "نكسةٍ" أو "نكبةٍ"، فإنّ أصوات المجتمع المدني الديمقراطي قويةٌ في تونس، لدرجةٍ تبعث على الأمل، وتسوِّغ التوّقعات، بأن تستأنف تونس مسيرتها في التحوّل الديمقراطي، في القريب العاجل، وليس الآجل فحسب.

وربما كان تجاوز الانقسام العلماني الديني أحد العوامل التي قد تساعد على الاستئناف المذكور. وتجاوز ذلك الانقسام يعني الابتعاد عن الأحكام الدوغمائية والأحادية الجازمة، بأنّ هذا الطرف أو ذاك لا يمكن أن يكون ديمقراطيًّا، وبأنه ينبغي إقصاؤه من العملية الديمقراطية، لمجرد أنه إسلاميٌّ أو علمانيٌّ. فالحكم على إسلامية أو علمانية أي طرفٍ ينبغي أن يتجنّب الأحكام الأيديولوجية المسبقة الجاهزة، وأن يكون متأسِّسًا، فقط، أو بالدرجة الأولى، على أساسٍ وحيدٍ أو رئيسٍ هو مدى التبني النظري لقيم الديمقراطية، ولمبادئها، وللعناصر الأساسية المكونة والمقوّمة لها، والالتزام العملي بها.

النصّ جزءٌ من مدوّنة "الفلسفة والناس" التي تتناول نصوصًا حول الأفكار الفلسفية، لكن بطريقة مبسّطة عبر استعراض أمثلة من حياة الناس وتجاربهم.
حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".