في التنميطِ والأحكام المُسبقة

15 مايو 2024
+ الخط -

في مسلسلِ "نظرية الانفجار العظيم" (The Big Bang Theory)، يدورُ الحوارُ التالي بين الممثلين كونال نايار وسيمون هيلبرغ:

كونال: لا بد أنّ لديك شخصًا ما في عائلتك يعمل محاميًا.

سيمون: لماذا؟ هل لأنّني يهودي؟ هذا يشبه أن أقول لك إنّه لا بدّ أنّ أحد أقربائك يعمل في مركز للردِّ على الاتصالات.

كونال: بالفعل قريبي يعمل في مركزٍ كهذا.

سيمون: حسنًا، وقريبي يعمل محاميًا.

كما هو واضحٌ في هذا الحوار، يمكن للصورِ أو الأحكامِ النمطية المسبقة السائدة عن الآخرين أنْ تكون صحيحةً، لكن يبقى من غير المقبول غالبًا إصدار مثل هذه الأحكام علنًا أو في المجالِ العام والتعامل الصريح أو الواضح، مع الآخرين، على أساسها. بل إنّ قواعد اللباقة أو الحصافة السياسية التي تزدادُ ضيقًا وحضورًا، وتزدادُ الأخطار المترتبة على الخروج عنها، في "العالم الغربي"، تحرِّم تداول مثل هذه الأحكام أو التنميطات، وتُصدرُ أحكامًا قاسيةً على من يُشتبه بأنّه يخالفها، بغضِّ النظر عن حسنِ نيّته أو سوئها، وبغضِّ النظر عن مدى وجودِ معقوليةٍ أو مسوّغاتٍ موضوعيةٍ للتنميطِ في هذه الحالة الفردية أو تلك.

في مشهدٍ من المشاهدِ الافتتاحية للفيلم الخالد "تصادم" (Crash) يكون هناك حديثٌ بين شابين في مقتبلِ العمر من ذوي البشرة السوداء، في "حيٍّ راقٍ" يندرُ وجودُ السود فيه. ويدور الحديث بينهما عن التمييزِ العنصري المُمارس ضدّهما، وعن النظرةِ النمطية السلبيةِ للأخرين، بيضًا وسودًا، لهم، والتعامل السلبي الذي يتلقيانه تعبيرًا عن هذه النظرة، وانطلاقًا منها. وأثناء حديث الشابين تظهر امرأةٌ (جين/ ساندرا بولوك) تمشي مع زوجها (جيك/ برندان فريزر) وتعاتبه على انشغاله بهاتفه، فيعتذر لها، ويعطيها بطارية هاتفه للبرهنة على أنّه لن يفعل ذلك بعد الآن في تلك السهرة. فتضم ذراعها إلى ذراعه وتلتصق به أكثر، للتعبيرِ عن رضاها عن ذلك، ولتحظى ببعض الدفء، حيث ذكرت في حديثها أنّ الجو أصبح باردًا أكثر فأكثر. وقد فعلت ذلك وهي تنظر إلى البيئةِ المحيطة بها، ومن ضمنها الشابان المذكوران، نظرات يمكن تأويلها على أنّها متحفظة أو باردة أو ما شابه. وقد رأى أحد الشابين أنّ قيامها بحضنِ زوجها أو ضمّه والالتصاق به، في ذلك السياق، دليلٌ على عنصريتها، ونظرتها النمطية السلبية لهما، بوصفهما من أصحابِ البشرة السوداء، من حيث إنّها ترى أنّهما يشكلان خطرًا أو تهديدًا، لمجرّد أنّهما من ذوي البشرة السوداء. كما رأى أنّ تعامل النادلة (السوداء) معهما، قبيل ذلك في المقهى، دليل على تلك النظرة النمطية السلبية، من حيث إنّها ترى فيهما خطرًا أو تهديدًا لمجرّد سواد بشرتيهما. 

يمكن لمثل هذا الكلام أن يُثير التعاطف والتفهم عمومًا، وأن يُتخذ أساسًا للقيام بنقدٍ أو انتقادٍ محقٍّ للأحكامِ التنميطية وللممارسات المتأسّسة عليها. ما حصل في المشهد ذاته، بعد ذلك، لا ينفي ما سبق، بل يضيف إليه بُعدًا جديدًا ينبغي عدم تجاهله رغم أنّه يبدو مناقضًا له وغير منسجمٍ معه. فبعد ذلك، قام الشابان بالهجومِ على الزوجين وسرقةِ سيارتهما بالعنف والإكراه والهرب بها، وبذلك حقّقا أسوأ صيغة من الصورةِ النمطية التي كانا يحتجان على أنّها ظالمة لهما. وفي المشهدِ ذاته، سبق للشاب الذي كان يحتج على عنصريةِ النادلة أن اعترف أنه تهرَّب من دفعِ الفاتورة وطابق النظرة النمطية التي كان يقول بعدم موضوعيتها وعدم إنصافها، وكان يحتج على وجودها لدى النادلة (المزعوم) في تعاملها معه.

لم يكن مؤكدًا أنّ جين/ ساندرا بولوك قد تعلّقت بذراعِ زوجها خوفًا من الشابين الأسودين، وهذا يعني أنّه ليس واضحًا أنّها كانت تملك تلك النظرة حينها أو تصرّفت على أساسها. ما كان واضحًا هو أنّ الشاب الذي كان يحتجُّ على وجودِ النظرةِ النمطية السلبية تجاه السود يملك، هو نفسه، نظرةً نمطيةً عن غير السود وعن النظرة النمطية تجاه السود. المفارقة الطريفة والمهمة هنا هو أنّ نظرته النمطية تجاه الآخرين كانت غير دقيقةٍ، في ذلك السياق، في حين أنّ النظرة النمطية السلبية المزعوم وجودها لدى الآخرين تجاه السود، لم تكن موجودة بالتأكيد حينها، وكانت، في ذلك السياق، مصيبةً، بالمعنيين المختلفين، وربما المتناقضين، المُمكنين لهذه الكلمة.

قد يكون أحيانًا، أنّ الشاب الذي يحتج على وجودِ النظرةِ النمطية السلبية تجاه السود، يملكُ هو نفسه، نظرةً نمطيةً عن غير السود وعن النظرة النمطية تجاه السود

من الضروري التأنّي في إطلاق الأحكام على الآخرين، وعلى نظراتهم التنميطية، بناءً على التنميطات التي نملكها عنهم وعن تنميطاتهم. وأذكر، على سبيل المثال، أنّ شخصًا سوريًّا قال بعنصريةِ شخصٍ ألمانيٍّ لمجرّد أنّ ذلك الشخص الأخير صرّح بعدم إتقانه اللغة الإنكليزية، وبعدم قدرته على التواصل بها معنا. وعندما سألته عن كيفيةِ معرفته بتلك العنصرية المزعومة. قال لي إنّ شعرنا الأسود دليلٌ أو قرينةٌ على أنّنا لسنا "ألماناً"، وبالتأكيد هذا سببٌ كافٍ لدى العنصريين لرفضِ التعاون أو التواصل معنا! لم أجد ذلك الاستدلال مقنعًا. ووجدتُ أنّ النظرة النمطية السلبية الموجودة لدى ذلك الشاب السوري عن الألمان وعنصريتهم أكثر قوّةً ووضوحًا وسلبيةً من النظرةِ النمطيةِ السلبية المفترض وجودها لدى ذلك الشخص الألماني أو غيره.

يمكن للنظرة النمطية أو التنميطية أن تكون سلبيةً وعنصريةً حتى في الأحكامِ والتعميماتِ الإيجابيةِ التي نطلقها على أنفسنا أو على غيرنا. وأذكر أنّ صديقًا سوريًّا كتب منشورًا فيسبوكيًّا يشيدُ فيه بالميزات العظيمة والاستثنائية لدى السوريين ويرى أنّهم، كلّهم تقريبًا، يمتلكون، دائمًا، سماتٍ إيجابيةً استثنائيةً، مقارنة بكلِّ الشعوب الأخرى، تقريبًا. وعندما قلتُ له إنّ كلامه يتضمّن رؤيةً عنصريةً. أجابني بكلِّ صدقٍ وبراءةٍ: أنا ضدّ العنصرية بكلِّ أشكالها بكلِّ تأكيدٍ. لكن هذا هو الواقع وينبغي لنا الإقرار به وعدم إنكاره!

من الضروري التأنّي في إطلاق الأحكام على الآخرين، وعلى نظراتهم التنميطية بناءً على التنميطات التي نملكها عنهم وعن تنميطاتهم

على الرغم من السمعةِ السلبية السائدة عمومًا عن الأحكام والصور والنظرات النمطية التنميطية، يمكن الحدِّ من سلبيةِ تلك النظرة وإظهار ضرورتها وبعضِ إيجابياتها الجزئية والنسبية وإمكانية توظيفها فيما هو إيجابيٌّ. وفي الفلسفة وفي العلوم الاجتماعية يمكن الحديث عن التنميطِ من منظورِ الأحكام أو التحيّزات المسبقة والفهم المسبق من جهةٍ، ومن منظورِ الأنماط المثالية التي تحدّث عنها ماكس فيبر وأصبحت أداةً منهجيةً بالغة الأهمية والانتشار في العلوم الاجتماعية وخارجها، من جهةٍ أخرى.

فمن الناحية الأولى، بيّنت الهيرمينوطيقا وفلسفات الفهم والتأويل والتواصل، بوضوحٍ وتفصيلٍ شديدين، أنّ كلَّ فهمٍ يتأسّس، بالضرورة على فهمٍ مسبقٍ. فالفهم المسبق أمرٌ أنطولوجيٌّ/ وجوديٌّ في عمليةِ أو سيرورةِ الفهم والمعرفة، وهذا أمر ينبغي أخذه في الحسبان، عند تناول هذه المسألة، بعيدًا عن عملياتِ الإدانة الكاملة والمسبقة للفهم المسبق بحدِّ ذاته، والتحيّزات أو الأحكام المسبقة بحدِّ ذاتها. وكانت هذه المسألة إحدى أهم نقاط الاختلاف في النقاش أو الجدال (الفلسفي) الذي دار بين هيرمينوطيقا التقاليد عند غادامر والحداثة النقدية عند يورغن هابرماس. فبالتضاد مع الرؤية الحداثوية (الهابرماسية) الناقدة أو بالأحرى المنتقدة لكلِّ سلطةٍ، ولكلِّ تقليدٍ وحكمٍ مسبقٍ، شدّد غادامر، من جهةٍ أولى، على أنّ السلطة ليست سلبيةً بالضرورة، وأنّه إلى جانب سلطة القسر والإكراه (وهي سلطةٌ سلبيةٌ) هناك سلطة الاعتراف، أي سلطةٌ تنال قوّتها بالحبِّ والإقرار الطوعي. كما شدّد، غادامر، من ناحيةٍ أخرى، على أنّ التحيّزات والأحكام المسبقة، هي شرط الفهم، وليست بالضرورة عائقًا من عوائق الفهم، ينبغي أو يمكن التخلّص منه لحصول الفهم (المنشود). وقد حاول ريكور، كعادته، "الجمع بين رأيي الحكيمين"، والتوفيق بينهما، فتحدّث عن "الهيرمينوطيقا النقدية"، ورأى ضرورة الانتقال من الفهم المسبق الساذج وغير الخاضع للنقد إلى فهمٍ تمّ قتله وإحياؤه نقدًا وتمحيصًا. وأطلق ريكور اسم القوس التأويلي، على هذا الانتقال، ورأى أنّه يشكّل أهم العمليات الهيرمينوطيقية.

ليس هناك فهمٌ كاملٌ ناجزٌ يمكن الركون إليه ركونًا كاملًا أو نهائيًّا أو مطلقًا، وجعله فوق عمليات النقد والمراجعة

ومن الناحية الثانية، يمكن للتنميط أن يتخذَ صيغةَ الأنماط المثالية التي تحدّث عنها ماكس فيبر الذي حدّد معنى تلك الأنماط في نصِّ "الموضوعية في العلوم الاجتماعية والسياسية"، بما يلي: "يجري الحصول عليها عن طريق التركيز أحادي الجانب على وجهة نظرٍ واحدةٍ أو عددٍ من وجهات النظر، ومن خلال توليف عددٍ كبيرٍ من الظواهر الفردية المنتشرة والمنفصلة (الموجودة بكثافةٍ عدديةٍ أكبر في مكانٍ واحدٍ، وأقل في مكانٍ آخر، وأحيانًا تكون غائبةً تمامًا) التي تتوافق مع وجهات النظر التي يجري التركيز عليها تركيزًا أحادي الجانب، في صورةٍ ذهنيةٍ متسقةٍ داخليًّا. في نقائها المفاهيمي، لا يمكن العثور على هذه الصورة في أيّ مكانٍ في الواقع. إنها يوتوبيا، ومن ثم تصبح مهمة المؤرخ أن يحدِّد، في كل حالةٍ فرديةٍ، مدى قرب الواقع منها، أو مدى بُعد تلك الصورة المثالية عنه [...]». وقد استخدم صادق جلال العظم، على سبيل المثال، هذه الأداة المنهجية للحديث عن "الشخص الفهلوي"، في كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة". وثمّة تشابه مهمٌّ بين استخدام الأحكام النمطية أو الأنماط المثالية في دراسة الظواهر الاجتماعية، أو الحديث عنها. في المقابل، ثمّة اختلافاتٌ مهمةٌ بين الأمرين. ومن أهم هذه الاختلافات أنّ التنميط في الأنماط المثالية هو قاعدةً لإطلاق الأحكام وامتلاك المعرفة، ولا يتضمّن بحدِّ ذاته أحكامًا أو معرفةً (بالواقع)، بالمعنى الضيّق للكلمة. 

الاستناد إلى فهمٍ مسبقٍ يتضمّن الكثير من الأحكامِ المسبقة والتنميطات الشائعة أمرٌ ضروريٌّ ولا مناص منه عمومًا، لكن الحذر من ذلك الاستناد ومراجعته نقديًّا وتدقيقه والانتقال من الفهم الساذج غير الخاضع للنقد والتمحيص إلى فهمٍ ما بعد نقديٍّ أمرٌ ضروريٌّ وممكنٌ أيضًا. ومثل هذا الانتقال لا يحصل مرّةً واحدةً نهائيةً وكاملةً. وبالتالي ليس هناك فهمٌ كاملٌ ناجزٌ يمكن الركون إليه ركونًا كاملًا أو نهائيًّا أو مطلقًا، وجعله فوق عمليات النقد والمراجعة. فهذه العمليات ليست جزءًا ضروريًّا من كلِّ عمليات المعرفة (الرصينة) فحسب، بل هي، في كثيرٍ من الأحيان، جوهر تلك العمليات ذاتها، أيضًا. وبهذا المعنى، الفهم الذي نملكه هو أيضًا ودائمًا فهمٌ مسبقٌ أيضًا. وهو ضروريٌّ ومفيدٌ لأيّ معارف لاحقةٍ نسعى إلى امتلاكها، لكن من الضروري، أيضًا، مراجعته والتفكير فيه، وليس به فقط، في سياقاتٍ كثيرةٍ.

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".