غزّة.. لا محور إلا في النفق!
في غزّة وحدها، لا مكان آخر من العالم، تتحدّد الانتفاضة، وتتشكل القوى والتحالفات؛ وكلّ تلك النفاقات السياسية في الخارج لا تعني شيئًا، إلا مجرّد اضطرار يبيح المحظور أحيانًا، لاستجلاب سلاح، أو ضغط، أو لتخفيف عبءٍ عن جبهة من الجبهات، وإن كان كذلك حتى فلا مبرّر له شعبيًّا، وإن وجد أهل السياسة له مبرّرًا، فلا بأس، تلك سياسة وهؤلاء ساسة، أما نحن (الشعب) فلسنا مطالبين أبدًا بأن نبدي الرضا عن ذلك، حتى الذين في الأنفاق، ربما لا يرضون أيضًا.
الأبرياء الشهداء في غزّة، والأبرياء الشهداء في جنوب لبنان، والأبرياء الشهداء في مكانهم أينما كان، مهما اختلفت مواقعهم، فإنّهم ضمن ذلك المحور ما لم يصيبوا دمًا حرامًا، أمّا ما عدا ذلك من الملطخة أيديهم بالدماء في إيران ولبنان وسورية والعراق، فإنهم ليسوا إلا رفاق لحظة مهمة، وأصحاب "مواقف" لحظية، لا تتعدى ذلك المشهد، ولا تمحو أثر الدماء القانية من الأيدي المجرمة أو الثياب المصبوغة، لأنّه ربّما يكون ذلك الهدف الأكبر لهؤلاء من وراء ذلك، أن تكون غزّة ميضأة يغسلون فيها أياديهم، وغزّة ليست تلك المغسلة التي يبحثون عنها.
في سورية، نزح ولجأ وهاجر وغرق وضاع وتاه أكثر من 8 ملايين سوري، نصف الشعب، تخيّل أن يرحل من مصر 50 مليون إنسان مثلًا، أو أن يغادر تونس 5 ملايين مواطن، كيف ستبدو البلاد حينها؟ ونصف مليون شهيد، ومئات الآلاف من المعتقلين، ودماء الأطفال وأشلاء النساء، وتلك المدن المقصوفة، والبيوت المهدمة، والكرام الذين أصبحوا بلا آمال أكبر من أن تنجو الخيمة وأهلها من الشتاء القادم؛ كلّ ذلك ليس بفعل الطبيعة، ولا كارثة مناخية، ولا حرب أهلية؛ وإنّما هي ثورة قمعها القتل، والاعتقال، والقنص، والاغتيال، والقمع، والبراميل المتفجرة، وهؤلاء الجنود المدججون بالسلاح، الذين اقتلعوا حنجرة القاشوش، وقطعوا أوصال زينب، ومثلوا بحمزة الخطيب، من البداية تمامًا، وقبل أيّ شيء.
ومعهم كان الآخرون، الجنود المجامِلون، من حاملي الرايات الصفر، الداعين إلى قتال أميركا، فتسلم أميركا، وتُقصف حلب، ويعود الجنود الأميركيون إلى قواعدهم بسلام، بينما لا يعود السوريون المدنيون إلى أيّ مكان، سوى المقابر، والمشارح، والمذابح؛ ثم يخرج "السيد" ليعلن أنه يقاتل في سورية أشباحًا لا يراها أحدٌ سواه، وإن قتلها، فلا بأس بأن يموت معها آلاف الأطفال، وتضيع ملايين الأحلام البريئة.
لا مركز إلا في الأقصى والقيامة، ولا معنى إلا في العاصمة الأبدية، ولا مقاومة إلا مع فلسطين وضد إسرائيل
وتتربع إيران، وقاسم سليماني، ورضا موسوي، وغيرهم الكثيرون، على عرش سورية، فوق بشار الأسد، (فوق أكتافه) يحكمون البلاد نيابة عنه، لأنه لولاهم، لما بقي في سورية بعد الثورة أكثر من عام واحد، العام الذي استطاع فيه تمكين كلّ من يريد قطعة من بلاده، مقابل ألا يأخذ قطعة من كرسيّه، فتركوا له الكرسي نفسه، يعبث به، دون معنى، بينما أخذوا كلّ تلك البلاد، وهو وحده، على عرشه، الذي بلا معنى، يظن نفسه حاكمًا بأمره، يتساءل في سماجة وسذاجة: أين ذهب الشعب؟
ما علاقة ذلك كلّه بغزّة، ومقاوميها، ورجالها الصادقين في خنادقها الضيقة، وسواعدها النظيفة وصدورها النقية في الأنفاق؟ لا شيء، لا يلتقيان، إلا عرضًا في بيانات تُنتزع منها أخلاقيتها، بإملاءات سياسية بحكم واقع مرير، تخلّى فيه الجميع عدا بعض "سلاح" هؤلاء ودعمهم، لكن ذلك لا يعني الصداقة، ولا الأخوة، ولا شيء، ولا مبرّر للساسة إلا أنّهم ساسة، لا أخلاق تحكم حين يحكم الواقع، أما نحن كما ذكرتُ فمطالبون إلى الأبد بأن نقول ما يلي..
دماء السوري، واليمني، واللبناني، والعراقي، والفلسطيني، وغيرهم من أبناء جلدتنا، وعروبتنا، وإنسانيتنا، من الأبرياء، واحدة، ولا فضل لدمٍ على دم، تلك قضية مركزية، لكنها لا تلغي بقية القضايا، وتلك الأرواح، وتلك الجرائم التي لا يسقطها أن يحجّ مرتكبوها في الكعبة أو الأقصى، فـ"لو جاء قاتلي وفوق رأسه مصحفٌ، لضربتُ عنقه".
فغدًا، ستتحرّر غزة، من العدو الخبيث، ومن الحلفاء الأشد خبثًا؛ ستتحرّر من داعميها، ومن سياستها، ومن ضروراتها، ومن فقه الواقع السخيف، لتكون واضحةً جليةً مكشوفةً كاشفة، وليس يحكمها إلا أهلها، وليس يقرّر عنها إلا الذين قرّروا مصيرها، وليس لها شهداء تقول إنهم شهداء القدس، إلا الذين دفعوا دمهم للقدس، في طريق القدس، الذي يمر عبر القدس وحدها، وليس في أيدي حملة ألويتها إلا دماء أعدائها، لا دماء حلب، ولا صنعاء، ولا طهران؛ بلا مَحاور إلا الأراضي المحتلة المقدسة، ولا مركز إلا في الأقصى والقيامة، ولا معنى إلا في العاصمة الأبدية، ولا مقاومة إلا مع فلسطين وضد إسرائيل، لا مقاوِمة شعوبها، ولا محتلة أراضيها، ولا رافعة أيًّا من تلكم الرايات الملونة.
عزيزي الذي يظن نفسه ضلعًا في المكان، لا ضلوع في الدائرة، ولا محور إلا غزّة.