عن جدوى الأسئلة في زمنِ الخَراب
ها قد مرّ زمنٌ ولم أعلّق على الحدث بعد. ولا أستغرب ذلك، إذ تأخذ منّا الكوارث وقتًا أطول كي نألفَ فكرة أنّها حدثت حقًّا، بل حدثت لنا من دون البشر. كنّا نعتقد أنّ الحروب قد أصبحت باردة منذ زمنٍ، وأنّ زمن الحروب السافرة قد ولى من غير رجعةٍ، لكن ليس هذا هو الحال مع عدوٍّ سافر. عامٌ كاملٌ بات على وشك الانتهاء، ولم تنتهِ الحربُ بعد. وهي مزيجٌ من السخافة والشرّ والجشع، فكرة الشيطان على الأرض، حربُ أفراد وجماعات من المشوّهين المرضى الذين يتصرّفون كدولٍ قائمة بذاتها.
هل هناك من يتحدّث اليوم عن القوي الذي يفعل ما يستطيع ليعاني الضعيف ما شاءت له استطاعة القوي أن يعاني؟ بل من يأبه اليوم لفكرة الحرب بصفتها خطأً أخلاقيًّا لن تستطيع ألف عام من السلام أن تعوّض تكلفته من الخراب والفقد وتشويه الإنسان؟
كم من الوقت ينبغي أن يمرّ على الإنسان الفلسطيني ليعتادَ فكرة الحياة الطبيعيّة، الحياة المغلّفة بالأمان. ومتى يستطيع الفلسطيني أن يبدأ يومه بصباح الخير لينعمَ بالخير، هو وأطفاله، من دون أن تؤرقه فكرة أنّ شرًّا ما لا بُدّ أنّه على وشك الحدوث.
نحنُ أجيالٌ من النّاجين، يُسلّم بعضنا بعضًا الذاكرة والوطن والخيمة والفقد والألم. لم تَعُد الذاكرة، ولم تكن يومًا حِكرًا على الفلسطيني التي شاءت له سرديّة الأحداث والتاريخ أن يبقى على الأرض أو أن يسكن الخيمة. أصبحت الخيمة فكرة يعيش داخلها الفلسطيني في أيِّ مكانٍ في العالم، وإن كان يسكُن قصرًا.
كم من الوقت ينبغي أن يمرّ على الإنسان الفلسطيني ليعتادَ أو يعيش الحياة الطبيعيّة، الحياة المغلّفة بالأمان؟
هل بقي للفلسطيني في هذا العالم العصي على الفهم والهضم غير الفلسطيني؟ أخ الدّم والأرض والتاريخ والمأساة. هل بقي لنا غير الالتفات إلى الداخل وترميم ما بقي من صورةِ الفلسطيني أمام نفسه؟ صورة المُغترب أمام ابن الداخل، صورة اللاجئ في نظر من بقي صاحبًا لبعض الأرض، صورة المنتمي إلى فكرةٍ عن الوطن أمام الفلسطيني الذي ينتمي إلى الوطن بصفتها فكرةً.
أين نحنُ الآن من العودة، والقدس والحدود واللاجئين والدولة والسيادة وكُلّ الأرض؟ أين نحنُ من فلسطين؟ هل ينبغي لنا أن نطالب بكلِّ ما سبق ونخسر الإنسان؟ هل بقي منّا ما نشيد به دولةً وقد هُدِم الدم واللحم والذاكرة والهُويّة؟ وهل كانت هُويّة الفلسطيني يومًا إلّاه؟
أسئلة كثيرة متناقضة تدور في بال الفلسطيني، أيًّا كان وأين وكيف كان.
وكيف لي أنا الفلسطينية حلمتُ يومًا بالوطن وعشته تجربةً، ثم ما لبثت أن عُدت إلى الحلم به ثانية؛ ما يعني أنّني رأيته من مشاهد متعدّدة، رأيته حلمًا من دون أن أعرفه، وعشته تجربةً بدّدت الحلم فأصبح واقعًا، ثم ها أنذا أعيشه حلمًا وأعرفه واقعًا. إذًا كيف لي والحال هذه ألّا أفكّر وأرى كما يرى الكلّ الفلسطيني؟
أصبحت الخيمة فكرة يعيش داخلها الفلسطيني في أيِّ مكانٍ في العالم، وإن كان يسكُن قصرًا
هل سأرى البلاد محترقةً والناس تحت الركام والموت وانعدام الأمل والحياة من دون أن أتساءل إن كان هناك من جدوى لكلِّ هذا الموت؟ ألن تكون مشاهد الحزن والكارثة كافية إلى الدرجة التي ستجعلني أنتشي فرحاً وأنا أرانا نُذيقُ من صبّ علينا كلّ هذا العذاب بعضًا منه، وأن أتمنى له المزيد؟ إنّ من يبرّر قتلنا وإبادتنا لن يكترث بإنسانيتنا تجاهه، ولا هو يستحقها.
لم تُخلق الحياة لكي تُهدم، لذلك كان من بابِ احترام الحياة، ضرورةُ الردِّ على الهدم بالهدم أحيانًا، لأنّك فقط من خلال الردّ يُمكنك إعلان هُويّتك؛ هُويّة الفلسطيني، وجوده وكفاحه وذاكرته ونصيبه من الخسارة الذي يقعُ في قلبه صبرًا، وفي معنوياته رفعةً تجعلُ منه بَطلًا في مواجهة قدره وإنسانًا يُكفكف حزنه من دون أن ينساه.
إن كان لي أن أوجّه رسائل، فرسالتي إلينا، أن نُحسن لأنفسنا بأن يكون بعضنا لبعض السند والمَدَدَ، أن نقَدّر يد العطاء التي تُمدّ إلينا وأن نمتن لها، لكن من دون أن ننتظرها، أن نتعلّم استحقاق الخير، وأن نعتقد بصناعة الحياة والإنسان كَما كان ديْدننا دائمًا.