عن البحث عن المعنى
يقول نَبِيُّ جبران: "ولدَنا شوقُ الحياة إلى ذاتِها". ونَلِد أنفسنا -احتفالاً- كُل عام شوقاً إلى ذواتنا. في عُمر ما يبدأُ كل ما حولنا بالتّحدُث، يثيرُ فينا الأسئلة ويُحمِّلنا عبء البحث عن إجابات، وبينما تبدأ الإجابات تطُل برأسها نكتشف سخافةَ ما طُرح من أسئلة، إذ إنَّ الأسئلة جميعها لا تعدو كونَها سؤالاً واحداً كبيراً، وإن هذا السؤال الواحد الكبير يجب "أن يجِد جواباً يُغطِّيه".
التساؤل جوهر الحياة، الحياةُ بمعنى الامتلاء لا بمعنى التواجد، لكن! ماذا لو كان السؤال إجابة نفسه؟ وحدها حياة روتينية هزيلة هي مَن تُشكِّل علامة استفهامٍ في وجهِ نفسها كصيغةٍ عملية للتعايش بعيداً عن بعض لحظاتِ الفَرح القليلة المتناثرة في الزمن هنا وهناك، والتي تساعدها على الاستمرار والمواصلة. علامة الاستفهام هذه عنوانها العريض: لماذا أنا هنا؟ ولماذا كل هذا الألم؟
التساؤلُ ألم. ألمٌ وليدُ فراغٍ وجودي يجتاح الإنسان باحثاً عن حاجته للتفسير، حاجته لأن يعرف أن الحياة لا تقذفه بالحجارةِ عشوائياً، حتى وإن لمْ تروِّعه فكرة دوستويفسكي بِأنْ "لا يكونَ جديراً بآلامِه".
إذا كنا لا نولد من جديد، وإذا كنا عاجزين عن النظر مجددا إلى الحياة ببراءة الطفولة وحماستها ودهشتها، فهذا يعني أن الحياة فقدت معناها
إن آلامنا الوجودية على أهميتها قد تكون من البساطة، بحيث تتسبب فيها آلام أقدامنا بعد ساعات طويلة في عملٍ يومي لم نستطِع أن نرى طائلاً من استمرارِ شقائنا من أجله. غير أن من يعيش حياته بغزارة فهم ومعنى يكون منغمسا فيها إلى درجة تجعل من التساؤل عن معنى حياته فعلا لا معنى له، لأنه في الحقيقة يحيا الإجابة.
الحياة صندوق فارغ مهمتك أن تملؤه. كلنا نولد فارغين، ثم نملأ صناديقنا يوما بعد يوم وسنة بعد سنة بالإنجاز، بالألم، بالصداقة، بالحب، بالعطاء وبالحياة. حجم الصندوق هنا ليس مهما، المهم ما ملأت به صندوقك وهل ملأته بالحقيقة أم تركته للخواء؟
إن ما يُحسب من عمر الإنسان هو مقدار ما يحياه منه بسعادة، على حين أن هذه السعادة قد تكون -كما يقول الرافعي- لحظات من هذا العمر الذي لا يُعد بالسنين ولكن بالعواطف.
إن لكل إنسان قصة يحياها ثم يرويها. تخيل أن يسألك أحدهم عن اسمك فتتلو عليه قصة حياتك، إذ لا علاقة للاسم بالإجابة، من أنت على الحقيقة هي الإجابة لذلك إن لم تنجح في القبض على لحظات السعادة تلك وإن لم تعرف لك اسما، مخرجك الوحيد هو أن تغير تجربتك في الحياة، أن تتعلم كيف أن لا تعبر النهر مرتين كما يقول هرقليطس، لأنك في المرة الثانية ستكون قد تغيرت ومياه النهر ستكون قد تغيرت هي أيضا.
إن لم تغير تجربتك ستحصل دائما على نفس إجابات خاطئة لأن المشكلة ليست في السؤال بل في التجربة، في معنى مماثل يؤكد الرافعي: لا تتم فائدة الانتقال من بلد إلى بلد إلا إذا انتقلت النفس من شعور إلى شعور، فإذا سافر معك الهم فأنت مقيم لم تبرح.
لماذا تتشابه الأيام؟ لأننا توقفنا عن إدراك الجمال في أبسط التفاصيل. الحياة ليست بطولها، بل بعمقها، بمعرفة أن لكل شيء توقيته الذي يحدث فيه. دائما عندما نعتقد أن الأمور ستكون طيبة فجأة وبدون أية مقدمات تتوقف عن كونها كذلك. الحياة تقود نفسها أحيانا، تتغير وتغيرنا.
لكن مدى تأثرنا وتأثيرنا في هذا التغيير هو ما يصنع الفارق، كيف؟ يقول حسين برغوثي: الحياة دائرة من ثلاثمائة وستين درجة، لتُبصر فيها تعلّم أن ترى دائريا. كل ما في الحياة تدريب وخبرة حتى الفرح، كما يُقرر مريد البرغوثي. وإن عاما واحدا يستطيع تغيير الكثير.
لذلك، توقف حالا عن البحث عن معنى لحياتك. الحياة معنى ذاتها، سيخبرك الكثير بالكثير من الأشياء حول ذلك، ليس المطلوب منك أن تخترع لها هدفا أو معنى، بل أن تدرك مسؤولية أن تكون، أن تجرب نشوة أن تكون .. هنا.
كبشر، كلنا نميل إلى ضرورة خلق ذلك المعنى وإلا سنشعر أن الحياة فارغة أو كأننا فارغون من الحياة. يقول ألان ويلسون: معنى الحياة أن تكون على قيد الحياة. معنى سهل جدا وواضح وبسيط، ومع ذلك يندفع الناس في ذعر شديد كما لو كان من الضروري تحقيق شيء يتجاوز أنفسهم.
إذا كنا لا نولد من جديد، وإذا كنا عاجزين عن النظر مجددا إلى الحياة ببراءة الطفولة وحماستها ودهشتها، فهذا يعني أن الحياة فقدت معناها، لذلك نجد أنفسنا غارقين في دوامة البحث عما فقدناه. فلنصغ إلى ما يقوله الطفل الذي ما زال حيا في قلوبنا.
"إن أهم يومين في حياتك هما اليوم الذي وُلدت فيه واليوم الذي عرفت فيه لماذا" مارك توين