سحر أن تكون عادياً
للحياة شروط لا بد منها؟ نعم. لكن ألسنا من يضع لها الشروط التي تناسبنا حين نسمح لأنفسنا بالاختيار؟ ألسنا نحن أيضاً من يتقيد بشروطها التي يضعها الغير حين ينتفي لدينا القرار؟ ألسنا قادرين أحياناً على تغيير الاتجاه وتبديل الاحتمال واتخاذ موقف آخر أكثر بساطةً وحياديةً تجاه الدنيا والناس وأقل انحيازاً لأنفسنا؟ هل الحياة هي ما نعيشه؟ وهل ما نعيشه واقعاً يمكن أن يشبه صفةَ الحياة حقيقةً؟ وكيف نستطيع تصنيف ما لا نعيشه، أو ذلك الذي نتخيل أننا نعيشه، إن كنا نمنحه حياة فقط داخل رؤوسنا، من دون أن نستدل على طريقة إخراجه واقعا يمنح حياتنا الحياة التي نستحق.
إن الإجابة عن أسئلة الحياة الكبيرة، تتطلب بحثاً حقيقياً عميقاً لتحري معانيها الكبرى، وهي وإن كانت تشترك في كونها تعبر عن صفة الإنسانية الواحدة، فهي ليست كذلك في تعبيرها عن الإنسان الفرد، فالطبيعة واحدة بينما الرداء مختلف، وما يستلهمه إنسان من معنى يُلقى عليه ويستحسنهُ، لا يشبه سوى خاصة كينونته بكل ما جبلت به من طبعِ يحكُمه، ومنطقٍ يُسيِّرهُ ومحيطٍ يُؤثر فيه وغايةٍ تستفزهُ وتدفعه وخبرةٍ تسعفه.
ومن ثم ليس من الإنصاف للإنسان وللحياة الحديث عن مغزى واحد ومعنى أوحد ينطوي تحت مظلته جميع البشر، ومن هنا فإن التفرد الذي يروج له كصفةٍ نخبوية يمتلكها محظوظٌ ويفتقدها تعيس، ليس إلا وصفاً توضيحياً لحالة التمايز المتأصلة في الطبيعة الإنسانية.
نتناظر في كينونتنا الجماعية كنوع بشري، ونتباين في كينونتنا الفردية الاجتماعية والفكرية والروحية والسلوكية كأشخاص. تساوي بيننا بشريتنا ولا يفاضل بيننا اختلافنا، إذ أنَّ الاختلاف هو سمة بشريتنا العادية، والتنوع هو سنة الله الأصيلة في كل ما خلق. وما دام الأمر كذلك، فأي غضاضة تلك التي يجدها إنسان في أن يكون عادياً، وقد خُلق كي يكون كذلك، وهل كانت عاديتنا شيئاً، غير أننا تساوينا في "الاستثناء"، فأصبح بفعل التساوي لااستثناءً، تماماً كبصمةِ الروح التي تُحيي فرادتُها الجميع، حتى أصبح بها الجميع عادياً، والتي اعتدنا وجودها وألفناها، فأصبحنا لا نكاد ندرك، كما يقول وول ديورانت، إن "كل ما نعدّه عادياً في حياتنا ليس عادياً" .
إن أحداث الحياة الدرامية الصاخبة وإنجازاتنا "اللاعادية/الاستثنائية" ليست هي ما تشكل اللحظات الحاسمة والرائعة فيها دائماً، بل إن ما يبدل حياة أي إنسان ويغيّر وجهتها إلى الأبد هي تجارب الوعي التي تتسلل بصمت تدريجي، متسلسل ومنطقي على نحو لا نكاد نشعر به، حتى يتجلى أمامنا في لحظة تحوّل واحدة، تكشف لنا عن فهمٍ جديد للواقع، مُختلف تماماً عما سبق وعشناه. فهم لن يكون بوسعنا أمامه سوى التحلي بالهدوء، التخلي عن مطاردة الشهرة، الاندماج في فعلي التأمل والانسياب، مع تيار التقبل والتعود، ثم التآلف مع خط الحياة الواعي الجديد المتجلي بكل احتمالاتها وخياراتها العادية الرائعة الممكنة.