عبدو النتن وعبدو الياهو

06 يونيو 2022
+ الخط -

صديقي "أبو صالح" الذي يحدثني عبر الواتساب من إدلب، مولود سنة 1972؛ أي أنه أصغر مني بعشرين سنة. ميزته أنه مهتم بجمع القصص الشائعة بين الناس، وحينما تعجبه قصة، إذا وجد فيها بعض الثغرات، فإنه يتواصل مع بعض العارفين بالأحداث، لكي يستكمل تسلسلَها في ذهنه..

حينما كنت أعيش في إدلب كان يسعى لمرافقتي بلطف شديد، فحينما يريد أن يدعوني لتناول فنجان قهوة، في مقهى حمشدُّو، مثلاً، يتصل بي، ويستخدم في حديثه (إذا) الظرفية على نحو متكرر، فيقول: إذا كنت مرتاح، وإذا كنت مروق، وإذا ما عندك شغل، وإذا ما كنت زعلان مني، وإذا كنت قادر تتحمل الجلوس معي ساعة زمان، أخبرني حتى أمر عليك بسيارتي، ونطلع مشوار، وإذا كنت لا تمانع، نقعد في مقهى حمشدو، ونشرب قهوة بلا سكر.

وفي المقهى، على فنجان قهوة بلا سكر، كان يسرد عليَّ جزءاً من حكاية أعرفها، ثم يقول: أظن أنك تعرف هذه القصة.. كيف صارت؟ وأيش صار بعدين؟

خلال هذه المكالمة قال لي: سمعت من مدة قريبة، يا أبو مرداس، قصة عن رفيق بعثي اسمه "عبدو الياهو".. سألتُ عنه كثيراً، وهناك من اقترح عليّ أن أسمعها منك. ما حكايته؟ ومن أين أتته هذه الكنية الغريبة (الياهو)؟

قلت: نحن، أهل إدلب، مشهورون باختراع ألقاب للشخصيات الطريفة، ثم نُلبسهم هذه الألقابَ حتى لا يستطيعون منها فكاكاً، وعندنا، كذلك، ولع خاص بتوليد بعض الألقاب من بعضها الآخر. الشخص الذي تسأل عنه، مثلاً؛ اسمه الأصلي "عبدو محمدين الباتنتي".

- غريبة. يعني اسمه الأصلي لا توجد فيه كنية "الياهو" أبداً؟

- أبداً. هل سمعت أنتَ بعائلة إدلبية اسمها "الياهو"؟

- لا والله.

قال أبو صالح: هل تريد الحق يا أبو مرداس؟ هذا الحكي دليل على أن عبدو الياهو أهبل وتافه

- إذن اسمع حكايته بالتفصيل: بدأ نجمُ الرفيق "عبدو محمدين الباتنتي" باللمعان في أواسط التسعينات، عندما كان طالباً في كلية الجغرافيا بجامعة دمشق. كان بعض الطلاب يدرسون هذا الاختصاص دون دوام، يعني، يحصل واحدُهم على المقررات، ويدرسها، ويذهب إلى دمشق في فترة الامتحانات فقط.

- تقصد: دراسات حرة.

- بالضبط. وفي تلك الفترة بدأ يظهر الساتلايت، أي التلفزيون الذي تغذيه الأقمار الصناعية، فيتيح للإنسان مشاهدة مئات المحطات التلفزيونية من خلال التقليب بجهاز الروموت كونترول، ولم يكن يقتني الساتلايت سوى بعض الأغنياء، ممن لا يوجد لديهم تشدد ديني، لأن المتشددين كانوا يحذّرون منه. والساتلايت لا يعمل دون تثبيت صحن كبير على سطح البناية، يُعرف باسم "الدش"، وللطرافة؛ التبس الأمرُ على بعض الناس، فصاروا يخلطون بين الساتلايت والصحن، فيقولون: البارحة تفرجنا على الدش. أو: هذا الفيلم شفناه على الدش.. أو: هذه السكاكين شفنا دعايتها على الدش. (وكأنهم كانوا يسهرون على السطح ويتفرجون على الصحن)!

- عفواً أبو مرداس؛ هل لهذه التفاصيل علاقة بعبدو الياهو؟

- طبعاً. ففي سنة 1993 عُرضت مسرحية "الزعيم" التي كتبها فاروق صبري وأخرجها شريف عرفة، من بطولة النجم عادل إمام، على إحدى محطات التلفزة. في أحد المشاهد، إذا كنت تذكر، يقول زينهُم (عادل إمام) لنائب رئيس الجمهورية (أحمد راتب): في إلي صاحب اسمه عبدو النتن.

ويوضح له: هوّ صحيح نتن، لكن قلبُه طيب!

الذين يعرفون الرفيق عبدو محمدين الباتنتي، بمجرد ما شاهدوا المسرحية، أطلقوا عليه لقب "عبدو النتن".. وبعد ثلاث سنوات من ظهور المسرحية، وبالتحديد في سنة 1996، بدأ يظهر في الأخبار اسمُ سياسي إسرائيلي متطرف، يرأس حزب الليكود اسمه بنيامين نتنياهو.. ووقتها أجرى الشباب تعديلاً على لقب بطل حكايتنا ليصبح (عبدو النتن- ياهو)، ثم اختصروا الاسم، حذفوا منه (النتن) فصار: عبدو الياهو!

ضحك أبو صالح وهو يقول: يا لطيف كم هي معقدة.

قلت: الآن تبدأ الحكاية. حينما كان عبدو الياهو في السنة الرابعة من كلية الجغرافيا بجامعة حلب، عُين شقيقُه الأكبر "خيرو" عضواً في فرع حزب البعث بإدلب. يومها فرح عبدو واستبشر، وفي أول سهرة مع زملائه، في منزل أحدهم بحي الناعورة، قال لهم: باركوا لي. أنا مدير ثانوية المتنبي.

ووقف، وراح يقلد أمامهم بعضَ الشخصيات التي اشتهرت في مدينة إدلب كمدرسين، أو أطباء، أو مديري شركات، وكل واحد منهم يتباهى بقوله "أنا من طلاب ثانوية المتنبي"..

سأله أحد الأصدقاء، بعدما توقفوا عن الضحك، عن صحة هذه الخبرية، فقال: ليس الآن، ولكن، افتحوا عيناً، وأغمضوا أخرى، تروني متخرجاً من الجامعة، و.. هوبّْ! يعزل أخي خيرو مديرَ ثانوية المتنبي الحالي، ويُصدر قراراً بتعييني مكانه.

ضحك أحدهم وقال: بهذه السهولة؟

ولكي يرد الرفيق عبدو على هذا السؤال الاستنكاري، سارع إلى فتح دفتر التعيينات المُخَزَّن في ذاكرته، وتقليب صفحاته. قال: فلان شقيق عضو الفرع الفلاني، صار مدير الخدمات الطبية السريرية، مع أنه متخرج حديثاً من كلية الطب بتقدير مقبول، بينما البلد مليئة بدكاترة مختصين بشهادات طبية مع درجة البورد، ولديهم خبرة عشرين سنة... علان، ابن أخت عضو الفرع العلاني، عينوه مديراً لشركة "ترابة الهلُّكْ لصناعة الحفوضات القماشية"، مع أنه يحمل إجازة في التاريخ، وووو، ولا يفهم بالصناعات ولا بالحفوضات ولا حتى بالأقمشة، ويجهل، أيضاً، ترابة الهلُّكْ.. وأنهى كلامه بأن مَن يُعينون بصفة مديري مدارس ثانوية ليسوا أحسن منه بشيء، فهو، حينما يتخرج، سيكون خريجاً جامعياً، ورفيقاً بعثياً مسدداً اشتراكاته لغاية 31/12، والأهم من ذلك كله أنه شقيق عضو الفرع خيرو، المحسوب على القيادة القطرية بدمشق، وعلى رئيس فرع الأمن العسكري بإدلب.

قال أبو صالح: هل تريد الحق يا أبو مرداس؟ هذا الحكي دليل على أن عبدو الياهو أهبل وتافه.

- الهبل والتفاهة في ظل النظام الديكتاتوري الأسدي، يُسَجَّلان، عادة، لمصلحة الشخص الأهبل التافه. المهم، شد الرفيق عبدو الياهو الهمة، وقعد وراء طاولة الدراسة مثل تمثال أبي الهول، وصار يلتهم المقررات ويهضمها مثل دَرَّاسة البرغل، حتى أصبح تخرجُه من الكلية مضموناً، وتخرج بالفعل، وبعد أيام أعلنت وزارة التربية عن مسابقة لتعيين خريجين جامعيين من كافة الاختصاصات، تقدم إليه عبدو، وبعد حوالي شهر، جاء القرار متضمناً تعيينه على مَلَاك مديرية التربية في إدلب. ووقتها ما عادت الدنيا تتسع له، نط إلى فرع الحزب، مثل الضفدع النطاط الشهير الذي تحدث عنه مارك توين في إحدى قصصه، ودخل مكتب أخيه خيرو، وطالبه بحقه في إدارة ثانوية المتنبي!

ودار بينهما، وقتئذ حوار طريف، سنتابعه في وقت قريب.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...