صراحة... على طريقة صباح فخري

11 سبتمبر 2022
+ الخط -

في معرض نقاشنا حول الأشخاص الذين يعتقدون أنهم أذكياء جداً؛ وهم ليسوا أذكياء، قلت لأبو صالح إن الأذكياء والعلماء والحكماء وحدهم الذين يجيبونك بعبارة (لا أعرف)، عندما تَطرح أمامهم مشكلة لم يسبق لهم أن درسوها أو تعلموها.

وقلت: حينما حكيت لك عن الشخص الذي زارني في منزلي بمدينة الريحانية التركية، سنة 2012، وصار يتحدث بلغة عويصة، عامرة بالمصطلحات الفضفاضة التي لا تتناسب مع مضمون الجمل التي يقولها.. أنت لم تسألني: في أي شيء كان يتحدث؟

- بالفعل، هذا لم يخطر ببالي. ألم يكن يحكي بالسياسة مثلاً؟

- بلى. ولكن ثقافته (الموسوعية) كانت ترغمه، بين الفينة والفينة، على التحدث في مجالات أخرى لا علاقة لها بالموضوع. كان يحاول أن يَضْبَعَنا نحن مستمعيه (أي: أن يُخيفنا كما يخيف الضبعُ فريستَه قبل الانقضاض عليها)، فيستخدم عبارات ساحرة، ماكرة، عابرة للقارات، من مثل:

(ومعلومٌ، بالطبع الديماغوجي الأحفوري، أن بلاد الغال الاستوائية تتصرف بالجفوة الاستباقية، فتسلك منسربات القيعان المتهالكة بفعل الراسب التاريخي، حتى تتحقق لها الاستشفافية المازوخية لموقف المنظمات الصهيونية، بالإضافة إلى القوى فوق المتصهينة، فتعمد، بوساطات لافروفية شديدة التبطين، إلى تجريف ضفاف الوايت هاوس الأميركي ذي الجدران المتقشرة، ودفع حوافه المتعلقة بـ وول ستريتِهِ إلى الأمام والأعلى، حتى يحصل ذلك الارتداد التاريخي الصادم، المخيب للآمال)..

- هه هه هاااه.. أرى أن هذا الرجل يزيد مَن يستمع إليه جهلاً بالموضوع الذي يحكي عنه.

- لا يزيده جهلاً بموضوع، إذ ليس هناك موضوع أصلاً، أضف إلى ذلك أنه يشحن المستمع إليه بطاقة سلبية عدوانية. وبما أنك كنت تسألني أساساً عن الأدب الساخر، سأحكي لك عن فكرة قصصية خطرت لي قبل ربع قرن، موضوعها (الطاقة السلبية)، وهي أن رجلاً عاقلاً، هادئاً، رصيناً، كان يشاهد نشرة الأخبار، وكالعادة؛ كانت النشرة كلها كذباً، ودجلاً، وتمجيداً للقائد، بالإضافة إلى أخبار الحروب والمجاعات والمقابر الجماعية، وفجأة طلب منه أحد أبنائه طلباً بسيطاً، فزجره، وصرخ في وجهه، وتطورت معه الحالة فاستل حزام البنطلون، وشرع يضربه بلا شفقة، ثم ضرب كل مَن أتى أمامه من زوجة وأولاد! على هذا الأساس، أنا أحب الحِكَم التي كان أهل بلدتي معرة مصرين يطلقونها.

- أيها تقصد؟

يقول الصحفي: أقيم معرض فني، في المركز الثقافي بمدينة إدلب، حملت كاميرا التصوير وذهبت لأغطيه صحفياً

- إذا أرادوا أن يصفوا لك شخصاً من النوع الذي يخبّص بالكلام يقولون لك: يو خاي (يا أخي)، هذا فلان لا يوجد أحلى منه عندما يكون ساكتاً!!

- حلو. وماذا تصرفت مع الضيف المفذلك؟

- قبل أن أقول لك كيف تصرفت. اسمع. ذات مرة، كنت أشاهد مقابلة على قناة لبنانية مع المطرب الكبير الراحل صباح فخري. قالت المذيعة لصباح: أريد رأيك بصراحة. فقال لها: نحن في حلب صريحون، وما عندنا لف ودوران، عندما نُسأل، نقول رأينا مباشرة وبطريقة: بُعْ جَمَل. وأنا قلت للضيف، بعدما قطعت حديثه، وبطريقة (بع جمل): عفواً يا أخ، أولاً أنا أرحب بك في بيتي، ولكنني مضطر لأن ألفت نظرك إلى أنكم جئتم، أنت والأصدقاء المحترمون لزيارتي، يعني نحن لسنا مدعوين إلى قاعة في مركز ثقافي لسماع محاضرة فلسفية من حضرتك! وبناء عليه يجب أن يكون الحكي، كما يقول أهل إدلب، بشمارية (أي: حصص متساوية)، وحضرتك أخذت أكثر من حصتك بكثير، ولذلك اسكت من الآن حتى نأذن لك مرة أخرى بالكلام!

- أكيد زعل منك.

- الغريب في الأمر أنه لم يزعل، أو ربما ابتلعها عمداً، وصرنا أنا والأصدقاء نتبادل الأحاديث الودية، وهو يحاول التدخل، وكنت أرفع يدي مشيراً له أن يتريث.. وهكذا.

- أبو مرداس، أرى أنك الآن تحكي عن الأدب الساخر، ولكن بطريقة غير مباشرة.

- صحيح. وأذكر أنني، قبل حوالي ربع قرن، أيضاً، حكيت عن رجل لم يكن أديباً ساخراً، ولكنه ذهب، ذات مرة، إلى المركز الثقافي، لحضور افتتاح معرض فني. وبعدما حضر المعرض، كتب مقالة عما شاهده هناك، ونشرها في الجريدة.. وإذا بالقراء يقولون إنه كاتب ساخر! هل فهمت مغزاها يا أبو صالح؟

- نعم. مغزاها أنه نقل الواقع كما هو، فضحك القراء، يعني الواقع نفسه هو المضحك، وليس أسلوب الكاتب.

- بالضبط. وقد كتبتُ في تلك القصة، وفيها يقول الصحفي: أقيم معرض فني، في المركز الثقافي بمدينة إدلب، حملت كاميرا التصوير وذهبت لأغطيه صحفياً.

وكان الفنان، صاحب المعرض، موجوداً، وقد التف حوله ثلةٌ من أنصاف المثقفين الذين يعتقدون جازمين بأنه لا يوجد أذكى منهم في العالم. وكان ثمة لوحة لهذا الفنان تتضمن رسماً لبعض شواهد القبور، وعلى أحد الشواهد عبارة مكتوبة تقول (الفاتحة.. هنا يرقد المرحوم التراث العربي). فما كان من أولئك الفهمانين إلا أن ثارت ثائرتهم عليه، وقال له أحدهم: واخ واخ. ما هذه الجرأة؟ أتقول إن التراث العربي مات؟

وقال ثان وهو ينط وينزل على الأرض: هذه لوحة صهيونية!

فرد عليه ثالث: حذارِ يا فلان. لن تصل بنا الأمور إلى حد التشكيك بوطنية فناننا، والقول إن لوحته صهيونية، أو إمبريالية..

واستدرك يقول مخاطباً الفنان: ولكنك، يا أستاذ، تبدو متخاذلاً، أنا أقترح عليك أن تتلف هذه اللوحة، وترسم مكانها لوحة بعنوان "لن نركع"!

وقال رابع: يجب أن تكون لوحاتك توجيهية. لماذا لا ترسم -مثلاً- قطاف الزيتون، أو رجاد الشعير؟

وقال خامس: اذهب إلى زقاق المبلط، أو إلى زقاق آل زيداني، وارسم الدكاكين التي تباع فيها الحصر والمكانس، يجب علينا أن نحترم التُرَاس (يقصد التراث). 

بقي الفنان المسكين أكثر من ربع ساعة وهو يتحمل هذا اللغط، منتظراً حتى هدأوا، وقال للأول:

- بدا لي أنك زعلان كثيراً على التراث، ولكن قل لي: ما هو التراث؟

فوجئ الرجل بالسؤال، وبدأ يتلجلج، ويقول: - التُرَاس؟ التراس أكيد شي كويس، وضروري لنا في معركتنا مع الصهيونية!

هنا ضحك الفنان وقال: - وماذا عن معركتنا مع الجهل؟ ألا ينفع فيها (التُرَاس)؟

وغادر القاعة وهو يبربر بكلمات، أعتقد أنها تنتمي إلى جنس السباب.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...