سيمون فايل... درس فيلسوفة اللاقوة
سعيد ناشيد
هكذا عاشت، وهكذا نسجت حكايتها بنفسها، وهنا بعض التفاصيل:
فيلسوفة كبيرة لكنها كانت تصرُّ على اقتسامِ خبزها اليوميّ مع الفقراء مثل الرّاهبات، يسارية جذرية لكنها كانتْ تُناضل بنفحةٍ روحانيّةٍ مثل القديسات، تتحدّر من عائلة بورجوازية لكنّها كانت تعيش مكتفيةً بالقليل مثل الزّاهدات، من أصولٍ يهوديةٍ لكنها كانت أكبر ناقد للتقليدِ العبراني المتمحور في نظرها حول إلهيات الرُّعب، أوروبية المنشأ والثقافة لكنها ناقدة كبيرة للإرث الروماني المتمحوّر في نظرها حول سياسات العنف والتوسّع. لم تعش إلّا أربعة وثلاثين عامًا إلّا أنّها أنتجت حوالى عشرين كتابًا مترجمًا إلى عدّة لغات، وقد خلّفت تأثيرًا سحريًّا بمعظم فلاسفة اليوم، لكن القليلين من يعترفون!
رغم ضعف بنيتها الصحية، انخرطت منذ مراهقتها المبكّرة في المقاومةِ المسلحة ضدّ الأنظمة الفاشية الصاعدة وقتها في أوروبا، إلّا أنّ تدهور صحّتها حال دون استكمال طموحها، لكي تتفرّغ للكتابة، وخيرًا فعلت، إذ سرعان ما صارت ناقدةً كبيرةً لبذور العنف ومنطق القوة في بنيان الحضارة الإنسانية.
أوجاعُ العالمِ في قلبِ امرأةٍ مرهفة الحسّ والوجدان، إنّها الفيلسوفة الفرنسية، سيمون فايل، التي عاشت خلال فترةِ ما بين الحربين، عاشت حياةً قصيرةً مثل ومضةٍ خاطفة، لكنها بركان من الأفكار، لا يزال يلقي بشراراته إلى الآن.
واجباتك هي حقوق غيرك، وواجبات غيرك هي حقوقك
كانت أعظم روح في عصرنا وفق توصيف ألبير كامو، صاحب رواية "الطاعون". أمّا مشيل سير، صاحبُ كتاب "العقد الطبيعي"، فيعترف بأنّه قرأ كتابها "الجاذبية والنعمة" حوالى أربعين مرّة قبل بلوغِ سنِّ العشرين، وكان الكتاب الأكثر تأثيرًا في مساره الفكري. ليون تروتسكي أُعجب بها أيضًا بادئ الأمر، لكن سرعان ما اعتبرها خطرًا على الماركسية.
عملت في بداية حياتها أستاذة للفلسفة في التعليم الثانوي، وسرعان ما تخلّت عن الوظيفة العمومية لتعمل في المصانع مع شَعب الكادحين، ومن ثمّ عاينت معاناة الفئات الأكثر ضعفًا وهشاشة في المجتمعات الصناعية. بل كانت حياتها اختبارًا للضعف في أكثرِ المظاهر قسوةً وضراوةً، سواء من حيث الضّعف الصحي الذي أَماتها في سنٍّ مبكرة، أو الضّعف الاجتماعي الذي ألقى بها وسط معاناة المعذّبين في الأرض، أو الضعف العاطفي الذي وضَع قصة عشقها الوحيدة على طريقٍ مسدود، أو الضّعف الرّوحي الذي جعلها تستشعر أزمة معنى الحياة وتنفتح على التجارب الرّوحية والصوفية بقلقٍ إبداعيٍ متفجّر. وفي ذلك كلّه امتلكت حدسًا بارعًا جعلها تسبق الكثيرين إلى كثيرٍ من المسائل.
إنّ كان فلاسفة اليوم يعودون بكثافةٍ إلى الرواقيةِ في ما يسميه البعض الرواقية الحديثة، فقد سبقتهم سيمون فايل قبل قرنٍ من الزمن حين حاولت الجمع بين الماركسية والرواقية. وإن كان فلاسفة اليوم يعودون إلى الروحانيات في ما يسميه بعضهم الروحانيات العلمانية، فقد سبقتهم سيمون فايل قبل قرنٍ من الزمن حين حاولت الجمع بين ماركس والمسيح. وإن كان معظم فلاسفة اليوم يؤكدون مبدأ المحبة، فلقد سبقتهم سيمون فايل قبل قرنٍ من الزمن حين جعلت المحبة مبدأً أساسيًّا لأجل مشروعِ حضارةٍ إنسانيةٍ جديدة. بل قبل أن تفكر البشرية في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حاولت سيمون فايل العمل على صياغة مشروع إعلان عالمي لواجبات الإنسان، وعيًا منها بأنّ الواجبات هي الأساس، فإنّ واجباتك هي حقوق غيرك، وواجبات غيرك هي حقوقك. تلك هي المعادلة.
إذا كان الإنسان مشروع وجود لا يكتمل، حسب سارتر، فلعلّ هذا التوصيف ينطبق على سيمون فايل أكثر من أيّ إنسان آخر.
تفقد القوة يومًا بعد يوم قدرتها على حسم النتائج، ما قد يجعل منها مجرّد وهم للضعفاء، وعبء على كاهلِ الأقوياء
حياتها القصيرة لم تكتمل.
دراستها الجامعية لم تكتمل. وظيفتها في التدريس لم تكتمل. مقاومتها للأنظمة الشمولية لم تكتمل. مشروعها الفلسفي لم يكتمل. معظم كتبها أوراق نُشرت بعد وفاتها، وهي لم تكتمل. حتى قصة عشقها الوحيدة كانت مبتورة مع راهب كنيسة، فلم يكن ممكنًا أن تكتمل. لعلّها في نواقصها ونقائصها تحاكي الضعف الإنساني في منتهاه وإلى منتهاه، لكنه الضعف الذي ينتج طاقةً بحجمِ العالم، بكلِّ آماله وآلامه.
على أنّ الضعف لدى سيمون فايل يمتلك نفَسًا روحيًا عميقًا، بناءً عليه فإنّها نجحت في تقديم أقوى تبريرٍ ديني لإشكالية وجود الشر في العالم في ظلِّ إلهٍ قادرٍ ورحيمٍ، وهي الإشكالية الأزليّة لإلهيات العصر الوسيط في العالمين المسيحي والإسلامي:
وجودُ العالم، حسب سيمون فايل، ثمرة قرار الذات الإلهية التخلّي عن مساحة تكفي لكي يظهر العالم بكلِّ نواقصه ونقائصه. ما يعني أنّ لحظة خلق العالم، لحظة بدء كلّ شيء، هي لحظة تنازل القوة عن نفسها، لحظة اللّاقوة إذًا. فما معنى أنك سيّد بيتك؟ معناه أنّك تستطيع أن تستضيفني فيه وتتخلّى عن مساحةٍ، أمارس فيها بعض حرّيتي، وشيئًا من خصوصياتي. تلك القدرة على التخلّي الجزئي عن سيادتك على بيتك هي التعبير الأسمى عن أنّك سيّد البيت.
وجود الشر في العالم حسب سيمون فايل ناجم عن الانسحاب الجزئي للذات الإلهية على سبيل المحبة والرحمة، يشبه الأمر ذلك الأب الذي بدل أن يفرض سيطرته الكلية على أبنائه، فإنّه يقلّصها لكي يترك لهم مساحةً للشغب، مع تحمُّل بعض الخسائر.
أعلى درجات السلطة هي القدرة على عدم ممارسة السلطة
أعلى درجات السلطة هي القدرة على عدم ممارسة السلطة كما يدرك حكماء السياسة، أعلى درجات القوة هي القدرة على عدم استعمال القوة كما يدرك حكماء فنون القتال، أعلى درجات إثبات الذات هي القدرة على عدم إثبات الذات كما يدرك حكماء العشق الإنساني والعشق الإلهي، تمامًا كما أنّ العفو لا يكون حقيقيًا إلّا عند المقدرة، ما يعني أنّ العفو هو الدرجة القصوى من المقدرة، وهو المقصود بـ"الصفح الجميل" في الحكمة القرآنية.
لكي نبني، فإنّنا نفكّر في الضّعف لا في القوة، نُفكر في الاحتماء من الشمس، والبرد، والرياح، والأمطار، والسيول، والجراثيم، والفايروسات، إلخ، لكن لكي نهدم فإنّنا لا نفكر إلّا في القوة. هنا يكمن منطق التفجير الإرهابي الراسخ في جذور بناء الحضارة الإنسانية، حتّى وإن استغلته جماعات تنتمي إلى خصوصيات ثقافية ودينية محدّدة، لبعض الوقت أو إلى حين.
المطلوب تغيير قواعد اللّعبة بدل الإصرار على تسجيل الأهداف. وهكذا يمكنني أن أبسُط قناعتي على النحو الآتي: سيمون فايل بدأت ما ينبغي أن تستكمله الفلسفة المعاصرة في عالمٍ لا يزال يقوم على القوة بالفعل، وهذا خبر سيئ، لكن الخبر الجيّد في المقابل أنّ القوة تفقد يومًا بعد يوم قدرتها على حسم النتائج، ما قد يجعل منها مجرّد وهم للضعفاء وعبء على كاهلِ الأقوياء.