سامر أبو دقة.. يابا شقد مشتاق!
نعم، مات سامر أبو دقة، وهذه الإجابة هي آخر ما تتوقّعه في بداية مقال، يُحتمل فيه المجاز أكثر، هروبًا من الحقيقة، لكن أوّل إدراك المصاب أن تعترف، وذلك اعترافي نيابةً عنّا جميعًا، لأنّه بالفعل، ظلّ سامر ينزف أكثر من خمس ساعات، غارقًا في دمائه، مثخنًا في جراحه، لا يستطيع أحد الاقتراب إليه إلا وقد يسبقه إلى الآخرة، بينما الصليب الأحمر، والمنظمات الدولية، كانوا أجبن (كالعادة) من أن يجبروا الاحتلال على احترام آخر رمق في حياة إنسان.
من خلف الكاميرا، عشرون عامًا استغرقتها الرحلة مع الجزيرة، حتى ظهر أخيرًا سامر أمامها، ليس شاهدًا على الحرب، ولا ناجيًا من المذبحة، وإنّما قتيل، شهيد، تنزف رأسه، وتغادر روحه، كأنّه لم تكن تصلح له إلا الكواليس، وكانت بطولة في اختفائه، وكان أبطاله الصور والمشاهد، لذا كان الظهور يعني الموت، وكان البدوّ يعني النهاية، وكان التجلّي يعني الوداع، وراح سامر، ومات سامر، وغادر سامر، ورحل سامر، وقُتل سامر، وكلّ المعجم اللغوي الذي يفيد بمفارقة إنسان من الدنيا، لأنّها الحقيقة.
"يابا شقد مشتاق".. قبل رحيله بكثير، كان الشوق طائلًا، لا تستطيع سماع زين سامر أبو دقة إلا وتخالجك مشاعر الشوق والفقد والألم تجاه الذين تحبّهم ولا تستطيع رؤيتهم ولا عناقهم ولا تقبيل أيديهم منذ سنوات، وحينها كان زين مغتربًا، وسامر في الوطن، قصة موجعة لكنها معروفة، لملايين المغتربين والمهاجرين والمنفيين، لكن الذي لا يتكرّر، ولا يعرفه إلا صاحبه، هو ذلك الألم، ألم اللحظة الأولى، بأن تعرف أنّ تلك الغربة استحالت غربةً أخرى تمامًا من اليوم، غربة أبدية حتى تلقى حبيبك في البرزخ؛ غربة لا تنهيها تذكرة سفر، ولا موافقة أمنية، ولا تصريح عبور، غربة لا تنفيها إلا غربة بحجمها تمامًا، غربة الموت.
الموتى ماتوا، والشهداء غادروا، بينما بقيت الكاميرا، والصورة، والمَشاهد، والمُشاهد، يرثون صديقهم المرح، وقد أضيف اسمه هو الآخر، إلى نشرة الأخبار
في المرة الأولى كان زين يفتقده، أمّا الآن فهو يفقده، في المرّة الأولى كان زين تفصله "الغربة الأفقية"، من موقع إلى موقع على وجه الأرض، أمّا الآن فتفصله "غربة رأسية" من مكانٍ ما فوق وجه الأرض، إلى مكانٍ ما تحت باطن الأرض؛ زين وعائلته كعائلات غزّة كلّها، كانت على كربها تنتظر ذلك الفرج، وانقشاع الغمة، وانتهاء الحرب، دون أن تفقد أكثر مما فقدت من أهل وأحباب وجيران وبيت، وأن يسافر سامر مجدّدًا، أن يعانقوه حضنًا جماعيًّا في المطار، أن يستقبلوه بالورود التي تمتلئ بها بلجيكا، أن يهوّنوا عليه ببعض الثلج كدمات السبعين يومًا، لكن الثلج الذي كان أقرب إلى سامر أبو دقة، هو ذلك الذي وضعوه فيه قبل دفنه، بينما لم يودعوه، لا بنظرة، ولا قبلة، ولا دمعة ساخنة تتسلّل إلى جثمانه الطاهر، فتظل مرسالًا بين الأرواح إلى الأبد.
لماذا أبكي الآن؟ لماذا أنشج كطفلٍ صغير يؤدّي الواجب رغم أنفه فيبلّل الكراسة بدموعه؟ لأنّني اعترفت، لأنّني واجهت نفسي، ربّما لمرّة نادرة، بموت إنسان في غزّة، بوفاة شخص من نحو 19 ألف شخص في غزّة، دون محاولات التحايل والمراوغة، دون الاختباء خلف الكلمات المنمّقة، دون اعتراف بأنّ الموتى ماتوا، والشهداء غادروا، بينما بقيت الكاميرا، والصورة، والمَشاهد، والمُشاهد، يرثون صديقهم المرح، وقد أضيف اسمه هو الآخر، إلى نشرة أخبار "الجزيرة".