سالم النحوي و"عطلة الشوب"

17 سبتمبر 2022
+ الخط -

عاش صديقي أبو صالح في بلدة معرة مصرين حتى تخرج من معهد إعداد المعلمين، وكانت العادة أن يعين المتخرج حديثاً في منطقة بعيدة، مثلاً: في آخر قرى جبل الزاوية، أو في ريف معرة النعمان، أو شرقي بلدة أبو الضهور، ولكنه لجأ إلى "الواسطة"، ودفع بعض المال على سبيل الرشوة، فعينوه في قرية قريبة من مدينة إدلب اسمها "عرب سعيد"..

صار ذهاب "أبو صالح" إلى الدوام، في قرية عرب سعيد، يتطلب ركوب اثنتين من وسائل المواصلات، من معرة مصرين إلى إدلب، ومن إدلب إلى القرية، وكانت المواصلات، يومئذ قليلة، وعتيقة، ومزدحمة، ومُكلفة. أراد أن يختصر إحدى السفرتين، فانتقل للسكنى في إدلب، وكان دوامه في المدرسة قصيراً (حوالي أربع ساعات)، فضلاً عن العطل الأسبوعية، وأيام الاحتفالات بعيد البعث، وعيد الثورة، وذكرى التصحيح، وعيد الشجرة، وعيد الفلاحين، وعيد العمال، وعيد صغار الكسبة، بالإضافة إلى عطلة الصيف التي كانوا يسمونها "عطلة الشوب" (كلمة الشوب تعني الحر الشديد)، لذلك بدا وكأنه عاطل عن العمل، يمتلك وقتاً طويلاً لممارسة النشاطات الاجتماعية أو الثقافية، وحيثما ذهبتَ إلى المقاهي ومراكز الثقافة والفن، كان من المحتمل أن تلتقيه.

في آخر اتصال بيننا، كان أبو صالح يضحك، وسألني: 
- متى تصادف (عطلة الشوب) عندكم في ألمانيا؟

أجبته بأن ألمانيا ما فيها شوب، فمعظم فصول السنة باردة، وممطرة، وإذا أحصيتَ أيام "الشوب" الفعلية، ستجد أنها لا تتجاوز أسبوعين. وليس في ألمانيا بعثٌ عربي، ولا شبيبة، ولا طلائع بعث، ولا نضال ضد الإمبريالية، ولا ثورة، ولا تصحيح، ولا قائد ملهم، ولا عَجُّور الجحش. أصلاً الألمان لم يتطوروا، ويجعلوا بلادهم قوة اقتصادية عظمى، إلا بعد أن أجروا قطيعة شاملة مع كل أنواع الدجل والفنظزية والعنطزية والتعالي والتعصب، فقد أدركوا أن الديكتاتورية، بتجلياتها المختلفة، هي التي أدت إلى دمار بلادهم في أواسط الأربعينيات، وهم ليسوا من النوع الذي يقع في الجورة نفسها مرتين.

- لا خلاف حول هذا، يا أبو المراديس. ولكنني أريد أن أحكي لك حكاية. هل تعرف مدرس اللغة العربية سالم النحوي وحكايته مع "عطلة الشوب"؟

- إما أنني أعرفها، أو أنني سمعتها ونسيتها. على كل حال تفضل. احكها لي.

- اسمه الأصلي "سالم عبوش". يدرس مادة اللغة العربية في ثانوية المتنبي. هو من ريف إدلب الجنوبي، استوطن مدينة إدلب منذ أكثر من ربع قرن.. واكتسب لقب "سالم النَحَوي"، لأنه كان يمتلك وسواساً قهرياً متسلطاً يتلخص في محبته اللغةَ العربية، وازدرائه العامية، وإصراره على تعريب لغة الحياة اليومية. وكان ابنه البكر عبد الوهاب على عكسه تماماً، يتحدث بلغة مغرقة في عاميتها، فعندما يخاطب أباه، مثلاً، يستخدم عبارة (يو ياب)، فيتخوزق سالم، ويغضب، ويحتجّ، ويعرض عليه مجموعة احتمالات، قائلاً:

- يا ابني، يا عبد الوهاب، عندما تخاطبني قل يا بابا، أو يا أبي، أو يا حاج سالم، أو يا أبا عبد الوهاب، ولا داعي لعبارة (يو ياب) التافهة هذه.

قال عبد الوهاب ببرود شديد: يو ياب أنت مو بس تأمر، أنت صرمايتك على راسي

فيرد عبد الوهاب: أنت ليش مقلفِنْ يو ياب (مقلفن تعني: غاضب)، بكره (أي غداً)، خلال صَرفة الشوب (خلال العطلة الصيفية) أنا أتعلم لغة عربية، وأصير نحوي مثلك وطجة (وأكثر).

يغضب سالم النحوي ويقول: يا ابني، لا تقل صَرفة الشوب، قل العطلة الصيفية!

ولكن مشكلة الابن عبد الوهاب مع اللغة السوقية كانت مزمنة، ومستعصية.. وهذا كله عادي، ولكن الأمر الظريف، المضحك، أن أحد زملاء سالم، وهو الأستاذ خلدون المزيَّت، كان يزوره ذات مرة في البيت، ودخل عليهما عبد الوهاب حاملاً صينية القهوة، وبعدما قدم لهما القهوة، جلس، واستمع قليلاً إلى حوار علمي كان دائراً بينهما، وما هي إلا لحظات حتى قال عبد الوهاب، على نحو مباغت:

- يو ياب، صَعِي (يعني: هل صحيح) مديركم بدو يتْطَرْنَبْ؟ (كلمة يتطرنب مأخوذة من لعبة الطرنيب في ورق الشدة، وتعني أن المسؤولين سوف يطرنبونه، أي: يقيلونه من منصبه!!).

لاحظ سالم أن الأستاذ خلدون بدأ يقاوم ضحكة ألمت به، ومن شدة غيظه صار يعض على راحة كفه، ويفرك وجهه بيده، ويسعل، ويحرك رجليه على الأرض على نحو غير إرادي، ثم قال:
- يا بني، يا عبد الوهاب، سمعتُ والدتك تناديك. هيا اذهب إليها.

ولكن عبد الوهاب لم يكترث لكلام أبيه. قال موجهاً كلامه إلى الأستاذ خلدون:

- سمعت لك يا أستاذ خلدون، في بَعْسِيّة (يقصد رفاقاً بعثيين) عم يزتوا قدام مديركم قشر موز.. (أي أنهم يريدون أن يزحلقوه، تمهيداً لإقالته من منصبه).
هذه المرة انفلت خلدون بالضحك، وعلق بذكاء:

- يا ابن أخي عبد الوهاب، حذار من غضب الوالدة، فالجنة تحت أقدامهن.

ضحكتُ وقلت لأبو صالح: بالفعل قصة مثيرة، وفيها سخرية بارعة. أشكرك.

- انتظر يا أبو مرداس، القصة لم تنته. الأستاذ خلدون نقل تفاصيل ما جرى خلال زيارة سالم النحوي إلى غرفة المدرسين في ثانوية المتنبي، واخترع تفاصيل إضافية من عنده، لأجل الضحك، منها أن عبد الوهاب قال إن مدير المتنبي سوف يُطَرْنَب، أي يقال من منصبه، لأنه طَشَنة (غبي) وطُبَيْشة (مغفل)، وعينه زايغة (أي ينظر إلى النساء نظرة غش)، والمدرسون ضحكوا ملء أفواههم، واستمرأوا اللعبة، وصاروا ينسجون حكايات على منوال هذه الحكاية.. وفي ذات يوم سمع الأستاذ سالم نثاراً من الأحاديث التي تدور في غرفة المعلمين، فذهب إلى منزله غاضباً، ونادى ابنَه عبد الوهاب، ووبخه أمام كل أفراد الأسرة، وقال له:

- بعد هذا اليوم، إذا زارني أحدُ زملائي المدرسين، ممنوع عليك الدخول.

وقال لزوجته: وإذا كان الأمر يتعلق بالضيافة، نادوا عليَّ، وأنا آتي بنفسي وآخذ القهوة أو الشاي. 
وعاد يخاطب عبد الوهاب: وكذلك ممنوع أن تذهب إلى المدرسة مهما كلف الأمر، مفهوم؟

قال عبد الوهاب ببرود شديد: يو ياب أنت مو بس تأمر، أنت صرمايتك على راسي، لكن أنا سألتك سؤال قدام الأستاذ خلدون، وحتى الآن ما أعطيتني الجواب.
قال سالم: أي سؤال أي سؤال؟
قال عبد الوهاب: 
- يو ياب أيمت (أي متى) عطلة الشوب؟

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...