رمضان غزّة وامتداد التجويع
حلّ رمضان، وحلّت معه أحداثٌ ما بعدها أحداث، تتواصل فيها سياسات التطهير وتمثلاتها العضوية والنفسية على الشعب الفلسطيني، بكلّ ما تُفضي إليه من تَبِعات الفقدان الجسدي والفكري.
أيضًا، حلّ الشهر الكريم، توقيتاً سنوي للعامة، ولكنه في هذا العام جاء سابقًا لأوانه، مقتصرًا على حيّزٍ جغرافي معيّن، وأُناس خُيِّروا مُجبربن، إمّا على الصبر بالصيام، أو الموت من الجوع إن لم يكن بفعل القنص، والقصف وشظاياه في جميع الأحوال.
ما زالت الادّعاءات الصهيونية جارية، والخطاب الكولونيالي العنصري في حالة تأهُّب مستمرة؛ لِقولبة العقول و"تنقِيتها"، من فكرة التعاطف مع الشعب الذي يعاني الحرب المتعدّدة الأطراف، الموّجهة نحوه من جوعٍ وحرمان وقصف، دون تقصير في أيٍّ من السّبُل التي قد تُودي بحياتهم وأرواحهم، إلى فكرة التحشيد والتحفيز نحو مُجابهة "الإرهابيين" المحصورين في قطاع غزّة بِشتّى الطرق التي في استطاعتهم القيام بها، من دون أن تُهدّد البروباغندا الظاهرة، وما تُخفيه في باطن الخطاب الكولونيالي الذي يُوحي بردِّ فعلٍ طبيعي، على اعتبار أنّه كذلك في حالة الحرب أو ما شابه على أي دولة، باجتياز حدودها المرسومة من منظورهم علنًا، علمًا أنّه لا حاجة إلى تحديد تخوم لقوى تسعى نحو التوّسع الاستيطاني المتواصل، بإقامة المستوطنات والطرق الالتفافية التي تحول دون اتصال المناطق الفلسطينية بعضها ببعض، وتساهم بوضوح عبر المعابر والحواجز في هدرِ وقتِ الفلسطينيين اليومية وحيواتهم، وهذا هو ما وراء الخطاب، الذي تتضح خفاياه من دون حاجة إلى التنقيب العميق في تفاصيلها؛ لإثبات الممارسات الممنهجة في التنغيص المعيشي وما يعقبه من تأثيرات، يَسعونَ من خلالها للإزالة والإحلال بالأشكال المباشرة وغير المباشرة.
هذه هي سيكولوجية الحرب القائمة حاليًّا، حصارٌ حدودي، وعوائق عسكرية، اعتقالات واجتياحات لا متناهية، وحرمان تغذوي، وتقييدات طبية وفكرية واجتماعية، وشيءٌ من الحِيَل المنسقة ونكث البعض مما يتم الإدلاء به والمماطلة، فضلاً عن ممارسات التعذيب والتشويه، والتهديد بالعِرض وانتهاكه؛ لكسر الأنفس والإذعان، عبر أجساد النساء الفلسطينيات وأرحامهن التي تشكل خطرًا يهدّد الأمن الصهيوني ومستقبله على مدار الوقت، ومع تقادُم الزمن؛ في سبيل خلق الشعور بالإحباط والعجز، إلى حين آخر قطرة من هدم النفس التي تفيض كأس الطاقة والقدرات، والتحسّر على ما مضى.
حصارٌ حدودي، وعوائق عسكرية، اعتقالات واجتياحات لا متناهية.. هذه هي سيكولوجية الحرب القائمة حاليًا في قطاع غزّة
بذريعة الدفاع عن النفس، والاتفاق على إعادة إحياء الفكرة المُزيّفة التي تدّعي أمان "الدولة" الصهيونية، وتوفيرها الحماية لساكنيها، وتوصيفها لهم وكأنها "يوتوبيا" مثالية وفاضلة، تمّ تشويه هيئتها بفعل أحداث السابع من أكتوبر، في حين أنّهم يسكنون الغيتو ويعانون فوبيا من الفلسطينيين "عرباً مخربين وإرهابيين"، كما في الإسلاموفوبيا، حيث يقوم المستوطنون والجنود الإسرائيليون بإعاقة توصيل المساعدات الغذائية والأطعمة إلى الشعب الغزِّي، واستخدامها طُعماً باستغلال حاجتهم وحرمانهم؛ لقتل كلّ من يحاول الوصول إليها، وكأنّ تحويل نقطة المساعدات، أو عمليات الإنزال الجوية وعبثيتها في إسقاط مواد غذائية لا تكفي المجاعة التي خُلِقت بفعل حرب التجويع المتَعمّدة إلى فخٍّ يسهل الوقوع فيه؛ لغاية محاولة ملءِ خَواء أمعاء الأجساد الهشّة، هي عبارة عن إنجاز يَفخَرون به في سبيل مكافحة مصدر الإرهاب والتخلّص منه، ولو كان صغيرًا في المهد حتى، فلا فرق لديهم، إذ جميعهم يشكلون هذا المدني المتلاشي الذي يحوي براعم الإرهاب والتعصّب والحقد بداخله منذ الولادة، وكلّما كبر ونضج، نمَت معه هذه البراعم وتسَعّرت بدافع الانتقام.
رغم إحاطة الجوع بجميع أطراف غزة، فإنّ هناك مقاومة للبقاء على قيد الحياة، وإبراز السيطرة الفلسطينية للغزيّ على جسده باختياره الصيام قبل حلول الشهر المبارك إلى حين وصوله، في ظلّ الحصار القائم والسيطرة الصهيونية وتقييداتها المُحكمة على تحرّكات الغزيين على وجه الخصوص، وكلّ ما يتعلّق بزمنهم في حياتهم اليومية الموقوفة عن الحراك ما بعد 7 أكتوبر، ولكن ومن بعد صيام تعدّى الثلاثين يومًا المتعارف عليها، وما زال يتعدّاها، سيفطر الصائمون في القطاع، إن استطاعوا، على موائد باهظة الثمن، تحوي أطعمة بسيطة جدًا، قد تتضمن ماءً وتمرًا، وبعضًا من الخضار كالبندورة مثلًا، أو الخبيزة التي أصبحت طَبقًا رئيسيًّا في الشمال بطبيعة الحال، أو القليل من الحساء إذا كان بإمكان أيّ عائلة مكوّنة من عشرة أفراد فأكثر، الحصول عليها وسط تزاحم صفوف المنتظِرين؛ بسبب نُدرة وجود الأطعمة في متناولهم، واستعصاء الحصول عليها، هذا هو الحال في قطاع غزّة مع حلول شهر رمضان المبارك، بمشاهد نرى البسيط منها على منصات التواصل الاجتماعي، بمساحة مسموح بها في ظلّ الرقابة السائلة للعولمة والحداثة، كما لم نعهد مشاهدتها في أيّ حرب مضت.