زنازين التّعذيب: ما بين الصّهيَنة والتوحُّش

زنازين التّعذيب: ما بين الصّهيَنة والتوحُّش

01 مايو 2024
+ الخط -

استَوقفني ما مرّ أمامي منذ بضعةِ أيّام على منصّة إنستغرام لموقع مِتراس، منشور يتضمّن موضوع الأسرى ومعاناتهم، ويحمل عنوانًا يصفهم كأنّهم "مبعوثون من الموت". العنوان لافتٌ للانتباه، ولكنّني أجزم بأنّه لافتٌ للذاكرة، يشدّد على الامتناع عن النسيان، أو التعايش مع هذه الأخبار التي نراها، بما تحمله من مشاهد مؤسفة لحالاتِ الأسرى التي يصلون إليها، إذ يقتصر على مُشاهدة المواد الإخبارية المُصوَّرة بِرؤيةِ وسماع أدِلّة حيّة وواقعية لوحشية الاحتلال الصهيوني ونازيّته في الاعتقال والتعذيب، وكأنّ العالم أجمع بحاجةٍ للمزيدِ من الأدلة والشهود على الجرائم الصهيونية بحقِ شعبٍ بأكمله؛ لإثباتِ شيءٍ ما.

لا أستطيع تحديد نوعية الإثبات والغاية حقيقةً، فما الغرض من الاستدلال بوحشيةِ استعمارٍ إحلالي مُتعارَف عليه، غايته لا تكمن فقط في الاستحواذ على أرض ليست من حقه، أو تشويه هُويّة السكان الأصليين وسرقة تراثهم، بل هي أكثر عمقًا من ذلك، علمًا أنَّ وصف العمق هنا ليس دقيقًا نوعًا ما، فغايتهم تتمحوّرُ حول الانتقام العنصري العرقي المُتَصهيِن، وتهدف للإزالة والتشويه، فضلًا عن المحو والإحلال، تتضمّن التصفية والنَّزع، وقد صَدَق المفكر، إيلان بابيه، بأنه تطهيرٌ عرقي تمامًا، وفي هذه الحالة فإنّ العالم على يقينٍ بما هي نقاط أهداف الاحتلال، خاصًة في ظلِّ الحرب الحالية على قطاع غزّة، التي يُدّعى بأنّها ردّة فعل على أحداثِ السابع من أكتوبر، حيث توسّعت دائرة الانتقام، وبات كلّ فلسطيني على أرضه يُشكل خطرًا يهدّد الأمن، وفخًا متحرّكًا، على أُهبة الاستعداد للقيام بأيّ عمليةٍ "انتحارية"، كما يجري وصفها، وفي أيّ لحظة.

"مبعوثون من الموت"، هي حالة الأسرى الذين يجري الإفراج عنهم، سواء بعد عددٍ من الشهور، أو عامين مثلًا، مع أسف الحديث على أنّها أقل مدّة اعتقال، مع إعادة الأخذ بعين الاعتبار الحرب الراهنة، وتكرار التشديد على حدث السابع من أكتوبر الذي يُعد دافِعًا قويًّا و"مُقنعًا" للانتقام من كلِّ عربي إرهابي مُخرِّب، وخارج عن القانون المُسَيَّس بشروطٍ كولونيالية صهيونية مُنحازة بالطبع، فكيف هي حالة هؤلاء الأسرى والمُعتقلين؟

توسّعت دائرة الانتقام، وبات كلّ فلسطيني على أرضه يُشكل خطرًا يهدّد الأمن، وفخًا متحرّكًا، على أُهبة الاستعداد للقيام بأيّ عمليةٍ "انتحارية"، كما يجري وصفها، وفي أيّ لحظة

في واقع الأمر، إنّنا نملك القليل فقط حول ما يمرّون به فعليًا؛ بفعل التكتُّم والتّستُّر المتعمّد؛ على افتراض أنّه بِغرضِ تجنّب الوقوع في شِباك المُساءَلة القانونية الدولية، وتشوُّه بروباغندا ضحية الهولوكوست المتلاشية والآخذة بالاندِثار مع الوقت، فكأنّ ما نراه هو لمحة مِن هذه "الفنون التشكيلية" في الاعتقال والتعذيب النفسي والجسدي، على اعتبار أنَّ ما نراه منها ليس كافيًا للاستدلال، فكيف يشعر من يتلقى بشكلٍ غير مباشر، وكيف يشعر من يتلقى بالشكلِ المباشر ويتعرّض لهذه الأساليب؟

أستذكر في هذه الحالة تجربة "زيمباردو" لسجن ستانفورد، التي درس فيها الآثار النفسية لمن يتعرّضون للسجن والتعذيب، حيث اتضح من خلالها دونًا عن أنّها لا أخلاقية، انعدامَ الفِطرةِ الإنسانية لدى مَن يمتلك صلاحيات تجعله قادرًا على التلذُّذ في التعذيب، وابتكار الجديد غير المتوّقع، والخارج عن حدودِ كونه إنسانًا، في نزعِ إنسانية غيرهِ باستخدام العديد من الأساليب القذرة اللا عقلانية في التفكير بها، وهذا ما يحصل مع الأسرى الفلسطينيين، ليس في الوقت الراهن والوضع الحالي فحسب، بل منذ بداية الحكاية، هذه الحكاية التي لا تُحكى فقط، وإنّما تُعاش أيضًا.

يعيش الأسرى حالة من الاختلال في التوازن النفسي والصحي، أو قد يكون فُقدانًا غالِبًا، فيُمارس المحتل ضدّهم أساليبَ تجويعٍ من المتوّقع أنّها لم تحدثْ حتى في القرون الماضية، حيث لم يكن قد جرى اكتشاف القواعد الإنسانية السويّة بَعد، فيتحدّث بعضهم ممّن استطاع استنشاق هواء التفريغ عن هَول الداخل ومأساته، عن محدوديةِ الأطعمة التي يجري تعيين مواعيدها، ومستوى طهي الأطعمة، مع عدمِ مُراعاةِ حساسية بعض الأسرى، أو عدم قدرة أجسادهم على تقبُّل تلك الأنواع، أو عدم صلاحيتها للاستخدام البشري مثلًا، ناهيكَ عن التّعداد بالأرقام، والتجنّب المتعمّد لِذِكر أسماء المُعتقلين، والمُداهمات المستمرّة للزنازين المظلمة، ومُصادرة كلِّ ما هَبّ ودَب أمامهم، كما نستطيع وصفها، فكل ما قد يكون ذا استخدام مزدوج، أو قد يُشعِرهم بالرّاحة، أو التّواصل مع العالم الخارجي لمعرفة المُستجدّات، والوقت، والنوم، أو شيء من الاسترخاء حتى، يقومون بمصادرته واحتجازه أو إتلافه، يشمل ذلك الملابس والوسائد والأغطية في بعضِ الأحيان، كنوعٍ من العقاب والانتقام الجماعي الذي يُشعِر مَن يقومون به بالقليل من نزعِ الحق ورَدِّ الاعتبار المفقود، ولا بُدّ من أهمية الإشارة إلى الحبس الانفرادي ورداءة ما بداخله، إنْ كان يحوي شيئًا من الأساس، وكمِّ الضغوط النفسية التي تتراكم في ذات الأسير وعقله، وما يُرافقها من أزماتٍ نفسية متواصلة وهلوسات تأتي بتقادم الوقت وكثرةِ الأيّام التي يعيشها فيه، إضافًة للتعذيب الجسدي بكلِّ تأكيد، والحِرمان مِن النّوم أو قطع الاتصال مع الغير، ولعلّ أقرب شاهدٍ على ذلك هو الأسير الذي أصبح شابًّا في سِنّهِ كرَقمٍ فقط "أحمد مناصرة"، وغيره مِن الشّباب الذينَ فقدوا رَيعان شبابهم، وانطَفأَ رونَق أرواحهم.

تنعدم الفِطرة الإنسانية لدى مَن يمتلك صلاحيات تجعله قادرًا على التلذُّذ في التعذيب

يجري انتهاز التحقيق، أو استخدامه حجةً لممارسةِ أقسى وأقذر الطرق الممكنة في تعذيب الجسد الفلسطيني، كنوعٍ من إثباتِ السيطرة عليه وتملّكه، وتفريغِ الحقدِ الذي يجري صَهر وعيهم وتعبئتهم به، بتعذيبِ النفس وإجهادها مِن كميّة الضرب التي يتلقّاها الجسد على جميع أطرافه وأعضائه، مع الضربِ المتعمّد على بعضِ الأعضاء الحيوية والمناطق الخاصة في أجسام الأسرى؛ ما يؤثر سلبًا من الناحية الصحية في البنية الجسدية، وإنهاكِ أعضائها، وتحقير النفس ومحاولةِ إذلالها بشتّى السُّبُل؛ لإفسادِ وإخمادِ بصيص الأمل الذي يستشعرونه، وتبديله باليأسِ والإحباط، ومحاولةِ فرضِ الانصياع لهذا التسلّط الأبارتهايدي العدواني الذي يتّسم بكلِّ ما تحمله الغرائز الحيوانية من توحّش وبدائية مُفرطة.

هناك الكثير من الممارسات الشّائِنة والدنيئة التي قد لا نستطيع وصفها، ولكنّها تُعطي سِمَة لا جدال في كونِها ممارسات صهيونية لا غير، وهو ما يُعبّر عن الشعور بالغصّة لِما يمرّ به الأسرى، وحرقة أرواحهم أنفسهم، ومِن بين ما يعلَق بالذهن نحو هذه المشاعر، ما ذكره أحد المعتقلين الذين جرى الإفراج عنهم، حول ما يُمارس ضدهم، بقوله: "بجيبوا مجموعة شباب وبخلوهم يعملوا شغلات عجيبة"، قد تكون هذه إحدى الفروقات في المعاملة، كأنّهم يوفّرون معاملة خاصة لِمن يجري اعتقاله من قطاع غزّة، دونًا عن غيره ممّن هو خارج القطاع، وهذا لا يعني بأنّه أخفّ وطأة، لكنه في الواقع يدل على صعوبةِ ما يمرّ به مَن يتعرّض لسخريةِ الاحتلال وألاعيبه في الاعتقال بذرائعَ سخيفة؛ بغية استخدام القوّة الاستعراضية كَوَسمٍ على أجساد وأنفُس الأسرى المُكبَّلة، مع عدمِ السماح لهم بالوصول لأرقى مرحلة، وهي الموت، فيكون الطريق للشهادة عَويصًا وشاقًّا؛ كونه يبثُّ الاستمرارية في نفوسِ بقيّةِ الشعب في النضال، رغم كثرةِ أعداد الشهداء في الأوضاع الحالية، فإنّ سلطة التحكّم في الحياة والموت، التي يُمنع فيها إسعاف المصاب، سواء داخل السجن أو خارجه، وجعله يعيش حالة الموت البطيء، إمّا بكثرة النزيف، أو الدِّقة في ضرب الأعضاء التي تُسبّب نزيفًا داخليًّا، يتشكّل معه ذلك الألم الذي يصعُب تحمّله إلى حدّ الإغماء لا الموت، هي طريق التعذيب لا الشهادة، وهذا ما يَسعونَ نحوه في زنازينهم، فقد يكون ما بين الحياة والموت وَهلة، لكنهم يعملون على تنغيصها وإطالتها؛ وبالتالي إطالة مدّة التلذّذ في التعذيب والتشويه، على أملِ إشباعِ هذه الغريزة الصهيونية، فرُغم حداثة الزمن و"تنوير" الإنسان، لم يجر استحداث هذه القُوى والأساليب الاستعراضية، لكن أُضيفَ إليها بعض الممارسات والأدوات التي تُواكِب العصر الحداثي بمرور الوقت، إلى جانب العوامل النفسية المرتبطة بسيكولوجية التعذيب، وكأنّ استعراض القوّة على أجساد الأسرى والتنكيل بهم، على النّهج البدائي، هو الأكثر زخمًا، والأشدّ استثارةً لشهواتهم ورغباتهم الصهيونية.

رغم أنّهم يُشكلون ذواتًا فاعلة على قَدَر استطاعتهم بصبرهم وتمالُكهم لأنفسهم وآمالهم بإيمانهم، واقتِناصهم أبسط الثغرات التي يستطيعون انتهازها في سبيلِ الترويحِ البسيط عن حالهم، ومحاولة الاستمرار في هذه الحياة المحاصرة والمُحصّنة داخل الزنازين بالكثير من الحمايةِ والحُرّاس؛ تخوّفًا من "التمرُّد"، إلّا أنّه كان ينبغي الحديث عن هذا الجانب المظلم المأساوي والمؤذي الذي يُغطي معظم يومِهم على مدى سنوات متتالية، ولعلَّ شهادة الشّهيد "وليد دقّة"، هي أبرز الأسباب التي استَدعت الاستذكار حديثًا.

ردينة عطا
ردينة عطا
طالبة علم اجتماع، خرِّيجة حديثة في جامعة بيت لحم.