رؤى عالمية مُتصارعة
بمناسبةِ حديثها أثناء تجمّع انتخابي للحزب الديمقراطي الأميركي، قالت مرشحة الحزب كامالا هاريس، ما معناه: اختلاف المعسكرين (الديمقراطي والجمهوري) ليس سياسياً في الأساس، ولكنّه اختلاف مرتبط برؤيتين، رؤية تنظر إلى المستقبل (الديمقراطيون) وأخرى تنظر إلى الماضي (الجمهوريون).
لا أعرف لماذا انتابني شعور بأنّ ما قالته يمكن أن يلخّص الوضع السياسي عندنا، فالناظر إلى الساحةً السياسيّة العربيّة، يرى بوضوح وجود تيارين كبيرين يتصارعان: الحداثيون (المتطلعون إلى المستقبل) والمحافظون (المتوسّدون على الماضي).
وإذا تمعنا في الأمر قليلاً، فسنجد أنّ هذا الصراع مُتحكّم في الجغرافيا العالميّة وممتدّ إلى التاريخ القديم، ابتداءً على الأقل، من الفلسفة اليونانية والخصومة الشهيرة الذي نشبت بين المثاليين والطبيعيين. ومن المعروف أنّ هذا الصراع حُسم في حينه لصالح الفلسفاتِ المثاليّة، ليستمرَّ هذا الوضع إلى حدود عصر الأنوار في أوروبا، حين بدأت الإرهاصات الأولى لعودةِ الفلسفاتِ الطبيعيّة. بعدها ستصبح هذه الفلسفات أكثر قوّة وتتوسّع على جغرافيا أوسع، ليُحسمَ الصراع لصالح الفلسفاتِ الطبيعيّة خلال القرون الموالية، حتى تحدّث بعض الفلاسفة عن نهاية التاريخ عقب انهيار جدار برلين.
إلا أنّ الوضع في الآونةِ الأخيرة شهد رِدّة عالميّة مع ظهورِ حساسيَاتٍ جديدة مدفوعة بالفورة التكنولوجية التي خلطت الأوراق وصعّدت من قوّةِ خطابات اليمين المتطرّف، حتى في عقر دار العالم الغربي الرافع للقيم التقدميّة، فضلاً عن الحساسيّاتِ المُعادية للغرب التي ترفع شعار العودة إلى التقاليد المحافظة، خاصة مع بعض الأنظمة العالميّة مثل روسيا والصين التي تريدُ أن تُعيدَ الصراع القديم الحديث إلى نقطةِ الصفر.
الصراع يبدو محسوماً سلفاً لصالح التيارات المحافظة على اعتبار الثقل الذي يلعبه الدين في مخيالنا الجمعي
وفي الدول الغربية التي لها تقاليد ديمقراطية عريقة، فإنّ اليمين المتطرّف، وإن فاز في الانتخابات وقاد البرلمانات وشكّل الحكومات، لن يقوى على قلب نظام الحكم رأساً على عقب. فالمجتمعات الغربيّة عاشت ويلات هذا السيناريو خلال الحرب العالميّة الثانية التي نتجت عن صعود الحركات الفاشيّة، كما أنّ المؤسّسات الدستوريّة المُوازية ستكون عائقاً أمام هذه الأحزاب لإعادة النظر في الأسس المتينة لنظام الحكم الديمقراطي التعدّدي.
أمّا عندنا، فإنّ الصراع يبدو محسوماً سلفاً لصالح التيارات المحافظة على اعتبار الثقل الذي يلعبه الدين في مخيالنا الجمعي، مع قلّة الوعي الديمقراطي وعدم تمرّننا على مفهوم التداول السلمي للسلطة وضعف المؤسّسات الموازية... وإذا وصلت "الحركات الفاشيّة" (خاصة حركات الإسلام السياسي) أو الحركات الشعبوية (القومجيون نموذجاً) إلى سدّة الحكم، فلن يؤدّي ذلك إلّا إلى مزيدٍ من الانزلاقات، ومن ثم إلى مزيدٍ من الأزمات السياسية على جميع الأصعدة، ولنا في مآلات الربيع العربي خير مثال على ذلك.
لا أريد أن يُفهم من كلامي أنّني أؤيّد ما يُمكن تسميته بالاستبداد المعتدل، لكن أقول إنّه يجب على الحركات التي تحمل على عاتقها مهمة إرساء أسس نظام ديمقراطي أن تكون ملمّة بجميع المزالق والمطبّات التي يمكن أن تعترض سبيل هذه المهمة الحيويّة لمجتمعاتنا التوّاقة إلى إقامةِ نظمٍ سياسيّةٍ يجد فيه الجميع مكاناً، من دون أن يكون عرضة لأيّ شكلٍ من أشكال التضييق أو الاضطهاد أو الملاحقة بسبب دينه أو عرقه أو جنسه أو آرائه...