أحلامنا العنيدة
بين ثنايا العديد من الروايات التي قرأت طالعت أحلاماً تتسم بالكثير من المعقولية والمنطقية، وفي أخرى، على العكس من ذلك، صادفت أحلاماً مضببة وملغزة تخلق داخل الرواية أجواء من الغرائبية الآسرة، بل إن الأمر لم يقف عند هذا الحد فبعض التيارات الأدبية، بإيعاز من مدرسة التحليل النفسي، جعلت من الأحلام مادة خصبة لبناء الحبكة السردية أو المتن السردي.
إذا كانت الأحلام تخدم الحبكة السردية أو التوتر الدرامي داخل المتن الروائي فهذا مرحب به، أما أن تكون تنويعاً سردياً يرجى منه إعطاء دينامية للسرد الروائي، خاصة داخل الروايات الواقعية، فهذا ما لا أستسيغه، وإن كان استخدامه مقبولاً لأن النص الروائي على العموم يقبل مثل هذا الحشو.
من مجموع أحلامي التي رأيت في مناماتي، لم أظفر يوماً بحلم يمكن سرده بتلك السلاسة. جل أحلامي، هذا إذا تذكرت تفاصيلها بعد استيقاظي، هي عبارة عن أحجيات لا سبيل لإعادة حكيها، فما بالك فك طلاسمها. لكنّني أتذكر حلماً كان يلح علي كثيراً عندما كنت مراهقاً. خلال تلك الفترة، كان الحي، حيث يوجد منزلنا، تخترقه طولياً السكة الحديدية ويسير على قضيبيها المتوازيين القطار المتجه صوب الميناء، حاملاً الفوسفات أو عائداً بالكبريت. ولمنع الغرباء من ولوج فضاءات السكة الحديدية كانت محمية بسور إسمنتي عال. مع ذلك كانت من الأماكن المفضلة لاقتراف شغبنا الطفولي، رغم معرفتنا أنه، بين الحين والآخر، تمر دوريات العسس لطرد الدخلاء عن هذا الفضاء الخطر.
لم أظفر يوماً بحلم يمكن سرده بتلك السلاسة. جل أحلامي، هذا إذا تذكرت تفاصيلها بعد استيقاظي، هي عبارة عن أحجيات لا سبيل لإعادة حكيها
في هذا التفصيل المثير، تدخل على الخط أحلامي. في الكثير من الأحيان أراني مع عصابة الأصدقاء مطاردين من طرف العسس. نهرع نحو السور القصير. يتمكن جميع أصدقائي من تجاوزه بسهولة والنجاة بأنفسهم من المحاولة الأولى. أما أنا فكل محاولاتي تبوء بالفشل. السور يبدو قصيراً في متناول اليد، لكن في كل محاولة أعجز عن تجاوزه لأن أطرافي تصاب بحالة من الشلل والرخاوة الطارئين. وفي اللحظة التي تمتد يد العساس لتمسك بي أستفيق من حلمي المزعج، في حالة من الاضطراب والهلع الشديدين.
استمر هذا الحلم بمطاردة أحلامي حتى اصطدمت خلال إحدى قراءاتي لأحد كتب سيغموند فرويد بترجمة الراحل جورج طرابيشي (في تلك الفترة كانت من الكتب الرائجة جداً)، يعرض فيه قصة يمكن القول إنها تنويع لقصتي، إلا أن المعنى واحد. وهذه أحداث الرواية مع الكثير من التصرف، فقد مر زمن طويل على قراءتي لهذا الكتاب ولا أتذكر عنوان الكتاب كي أعود إليه، ولم يعد أصلاً موجوداً على رفوف مكتبتي أي عمل من أعمال فرويد، فأنا على العموم أفضل تجديد خزانة الكتب على الدوام، بدل تكديس الكتب بعضاً فوق بعض.
يحكي فرويد أن أحد مرضاه المراهقين يحلم أنه يدخل إلى حديقة غنّاء مسيجة، وعندما يخرج صاحبها، يهرع الولد إلى حيث ترك دراجته الهوائية ليهرب على متنها، فيجد عجلتها مفشوشة. يفسر فرويد هذا الحلم بأنه يعبر عن عقدة أوديب. ثم أفاض في التحليل والتفصيل وتقليب القصة على جميع الأوجه، ليخرج منها باستنتاجات، ساعدته على إيجاد الحلول المناسبة للمشكلة النفسية التي يعاني منها المراهق.
حينما قرأت هذه القصة وتفسيرها عند فرويد، استرعى انتباهي التطابق القائم بين حلمي وحلم المراهق، ما دفعني إلى الاستغراق في تفكير طويل فيما قرأت، والتقاطعات الممكنة بين حلمي وما كتبه سيغموند فرويد. المفاجأة الغريبة التي حدثت بعد كل هذا، أن الحلم كف عن مراودة أحلامي. تبخر كأنه لم يوجد أصلاً. فكرت طويلاً لإيجاد تفسير مناسب لهذه الظاهرة، فلم أجد إلا هذا التفسير: لاوعيي استوعب أنني فككت مرامي حيلته، فكف عن تصريف مخزوناته من خلالها.
بطبيعة الحال، لم تنقطع أحلامي. أعتقد أن لاوعيي اخترع قصصاً جديدة فيها الكثير من التنويع، لتمرير رسائله المشفرة، لكي لا أقبض عليه متلبساً مرة أخرى. هكذا، في الغالب، لم أعد أتذكر أحلامي عند استيقاظي، لأنها لم تعد تتكرر.