دابل ودابل ودابل.. من العصر دابل

04 فبراير 2022
+ الخط -

تشريق وتغريب (4)

كنت أحكي لصديقي أبو أحمد، خلال تشريقنا وتغريبنا (عبر الاتصال بالواتساب) عن دارنا في معرتمصرين، التي كانت لجدي الحاج خطيب بدلة، وورثها عنه أبي، عبد العزيز بدلة، وورثناها نحن عنه، ثم بعناها بعدما كبرنا، وتكاثرنا، وتفرقنا، وتبهدلنا حاشاك.. وقلت:

- كانت داراً كبيرة إلى درجة أن الخَيَّال يمكن أن يلعب في داخلها على ظهر حصانه بـ الجريد..

- عفواً أبو مرداس. هل الجريد مشتقة من الجري على ظهر الحصان؟

- أظن ذلك. ولعلمك، كانوا، قديماً، يسمون سباق الخيل "الجريد"، وهناك أغنية منقولة عن مطرب معرتمصرين الكبير "أبو الياس"، ما زالت تغنى في أعراس معرتمصرين حتى اليوم، عنوانها (دابل)، وأصلها ذابل، المشتقة من الذبول.. والذبول صفة تطلق على المرأة للتغزل بها، وكما تعلم، في الغناء، لا أحد يميز بين ضميري المذكر والمؤنث..

- كيف يعني؟

- المطرب المذكر يخاطب حبيبته الأنثى بضمير المخاطب المذكر. وهذا أمر مألوف ومفهوم لدى المستمع بالطبع. مثلاً: أبو النور، محمد عبد المطلب، يغني: حبيتَك، وبحبك، وحَ حبك على طول، مش خاين، ونسيتَك، زي إنته ما بتقول. وعندما تغني لور دكاش يا أم العباية حلوة عباتك، لا يعني أنها تغازل امرأة مثلها، ولكن حبيبها حينما يغازلها هو الذي يحكي عن جمالها، وروعة عباءتها:

يا أم العباية، حلوة عباتك

جمالِك آية، زينة صفاتِك

زينة صفاتك يا أم العباية.

وأنت، يا أبو أحمد، تسمع مطرباً رجلاً يغني مستخدماً مصطلح "ولفي"، فتدرك أنه يقصد (وليفتي).. ولعل أجمل ما غنت فيروز طوال مسيرتها الفنية هذا المقطع التي تخاطب به الولف:

يا ولف مهما صار لا تصدّق حدا

خلّي ودادك فوق ما ظنّوا العدا

قلبي الـ كتبتُه إلك، باقي إلك

ما بتخلفُه الأيام عَ طول المدى

بيني وبينك يا ولف عشرة صبا

وعهود مكتوبة على دروب الربى

قلبي لقلبك حنّ ولْرَبْعك صَبَا

شوقي إلك شوق البنفسج للندى

وهنا، في بيت القصيد، تجد الصورة الفنية المذهلة، في قولها (شوقي إلك شوق البنفسج للندى).

- كلام جميل، مع أنني أضعتُ بدايته. هل تستطيع العودة إلى حيث كنا يا أبو مرداس؟

- بلا شك. فأنا، في القَصّ، (مَسّيك).

- ما معنى مسيك؟

- إنه مصطلح يستخدم في عالم الغناء والطرب. أم كلثوم، مثلاً، معروفة بمقدرتها الاستثنائية على "السلطنة". تغني، مثلاً، من كلمات بيرم التونسي وألحان زكريا أحمد:

الأولة في الغرام والحب شبكوني

والتانية بالامتثال والصبر أمروني

والتالتة من غير معاد راحوا وفاتوني

وعندما تعيد المقاطع الأولى من الأغنية، أكثر من مرة، تسلطن، وتردد (الأولة في الغرام) بطرق مختلفة، يترافق ذلك بتغيير النغمة الأصلية.. وأم كلثوم "مَسّيكة" ماهرة، يعني أنها بارعة في "إمساك" المنطقة التي خرجت منها، ومهما سلطنت فإنها تعود إلى النغمة الأصلية، وتتابع من أول السطر.. وهذا الأمر يبهر المختصين بالموسيقى أكثر مما يبهرنا نحن الذي نكتفي بالطرب وهز الرؤوس..

- طيب. لنعد إذن إلى حيث كنا.

- كنا عند أغنية أبو الياس دابل. عندما تغني لحبيبتك (دابل) فهذا يعني أنك تراها ذابلة، من العشق، والحزن، وربما الدلال. تقول الأغنية:

دابل ودابل ودابل، من العصر دابلْ

مكحل عيونو يا يما، مرخّي الجدايلْ

هنا، ومن خلال الحديث عن كحل العين وإرخاء الجدايل يظهر أن المخاطب امرأة.. ولكن، فجأة، يحصل في الأغنية شيء بارع.. وهو أن راوي الأغنية يتغير، وتصبح الحبيبة هي المتكلمة، فتقول عن حبيبها الشجاع:

جاية من بعيدْ، يا يما، يلعب بالجريدْ

غيرو ما أريدْ، يا يما، ركّابَ الحصانْ

يا يما ركّابَ الحصان

دهش أبو أحمد من هذه التشريقة في كلامي، وقال:

- يبدو أنني، بعدما أتحدث معك طويلاً سأتحول إلى مسيك نظامي. والدليل أنني أعرف أننا انطلقنا في حديثنا من دار جدك، رحمه الله. صح؟

- صح.

- يا أبو مرداس، عندنا في مدينة إدلب دور عربية كبيرة، ولكن، ليس لها باحات كبيرة يلعب فيها الخَيَّال، دور إدلب العربية، في الأغلب، مؤلفة من طابقين، ذات علية، وغرفُها كثيرة.. بمعنى أنها شاقولية، بينما تتحدث أنت عن دار منبسطة، أفقية.

- صحيح. كانت دارنا الكبيرة في معرتمصرين عجيبة.. في طرفها الشمالي، أربع غرف كبيرة، تتجه كلها نحو الجنوب، وكنا نسميها "الغرف القبلية" بسبب اتجاهها، وهي مخصصة للسكنى، والمعيشة، والاستقبال، والنوم، وأما الغرف الجنوبية التي تتوجه شمالاً، وتسمى الغرف الشمالية، وبضمنها الليوان، فمخصصة للمؤن، والاستراحة في وقت القيلولة الصيفية، بالإضافة إلى أن بينها مطبخاً كبيراً، كان يستخدم للطبخ والنفخ، والاستحمام أيضاً.. وهنالك جُبّ في الطرف الغربي من الصف الشمالي، وجب في الطرف الشرقي منه، وبينهما، من جهة الشرق غرفة ذات طراز حديث (نسبياً) اسمها المربع، والمربع ذو واجهة منحوتة ملآى بالزخارف، في أعلاها لوحة حجرية منحوتة كُتبت عليها العبارة التالية:

غرفة قد شادها الهمام ابن الهمام

عبد العزيز من آل بدلة الكرام    

والحقيقة أن هذه الغرفة قد بنتها جدتي "طيبة الزيم"، أم عبد العزيز، المرأة الشجاعة التي توفي زوجها، الحاج خطيب آغا، فأصبحت تُعَدُّ بين رجال البلدة، ولأجل أن تكون غرفة ابنها الوحيد مميزة، استقدمت بَنَّائين نحاتين من حلب، تبين أنهم أرمن.. وبما أننا نتحدث عن الغناء، سمعتُ، وأنا طفل، من أقاربي المتقدمين في السن، أن النحاتين الأرمن كانوا يغنون، أثناء قيامهم بنحت الحجارة، وبناء المربع، باللغة الأرمنية، وهم، أعني أقاربي، كانوا يحبون ذلك الغناء مع أنهم لا يفهمونه.

- صدقني يا أبو المراديس، تشريقك وتغريبك مثير. فهمت منه أن والدك كان وحيداً لأبيه وأمه..

- هو لم يكن وحيداً في البداية. عمي جميل، أخو والدي، من زوجة جدي الأولى، وهي حلبية، وكان، كما يقال، جاهلاً.. وكلمة "جاهل"، في لغة تلك الأيام، كانت تحمل معنى إيجابياً. المرأة إذا التفتت التفاتة على غير قصد تضرب، أو تذبح، والرجل إذا عمل (السبعة وذمتها) يفرحون عليه، ويقولون: أشو عليه؟ جاهل. بالمناسبة أخي أبو أحمد، ما تزال هذه العقلية سائدة في مجتمعنا، وإن بشكل أقل حدة من السابق.. وإذا أردت أنا أن أتفلسف قليلاً، أقول لك: طالما هذه العقلية المؤيدة للذكر، معادية للأنثى، قائمة في مجتمعاتنا، فلن تقوم لنا قائمة في المدى المنظور.

(للحديث صلة)

 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...