خمسون عاماً من التثاؤب
"بلاها بكرة" يهمس بهذه "النصيحة" أحد الجيران الذي كان قد سألني عن برنامجي في عطلة عيد الفطر. كنت قد قلت له إنّنا كالعادة سنزور قبر والدي في بلدتنا الجبلية في جرود جبيل، بالرغم من تنبؤاتِ مرصدِ الأحوال الجوية الذي نبّه إلى طقسٍ متقلبٍ، وتساقطٍ محتملٍ للثلوج على ارتفاع ألف وأربعمئة متر فوق سطحِ البحر، وهو ارتفاع بلدتي الصغيرة التي لا نقصدها، كغالبية أهلها، إلا مع بداية الصيف.
لكن للعيد طقوسه، والشوق لزيارة والدي الراحل منذ هنيهة ازدادَ كثيراً. ففي مناسبة كهذه، يعود أهل البلدة موتاهم في مقبرة القرية، فيُوّزعون هناك الحلوى عن أرواحهم في طقسٍ تقليدي، ولو كان "الثلج للركب" كما يقال.
لكن الجار الذي يسألني عادة، كوني صحافية، عن "الأوضاع"، بادرني هو هذه المرّة بنصيحةِ الامتناع عن التجوّل "هاليومين" على الطرقات، خاصة من الشمال وإليه، إلى أن يخف التوّتر الطائفي/ الأمني، إثر تداعيات خطف ومقتل مسؤول منطقة جبيل في حزب لبناني، وهو الخبر الذي خضّ البلاد عشية العيد، خصوصاً بعد ظهور "تقليدي" لمسلّحي هذا الحزب على الطرقات، معتبرين، رغم تحقيق أولي لمخابرات الجيش اللبناني خَلُص إلى قتلٍ بدافعِ السرقة، أنّ مقتله ناجم عن اغتيالٍ سياسي.
لا أحد أنصف ضحايا الحرب الأهلية في لبنان أو اعتذر منهم أو عمل على مصالحتهم والتعويض عليهم
هكذا، ما أن تلقوا الخبر، حتى تَداعى أنصار الحزب فنصبوا خيمَ اعتصامٍ وسطَ الأوتوستراد الدولي بين بيروت وطرابلس، إضافة الى ضرب وسحل عددٍ من العابرين السوريين، كون بعض مرتكبي الجريمة عصابة من هذه التابعية، ومثيرين هلعَ المواطنين الذين عادت إليهم في لحظةٍ صور الحرب الأهلية التي "تصادف" ذكرى اندلاعها غداً في 13 إبريل/نيسان الجاري: الحواجز الطيّارة التي لا تعرف متى وأين وكيف تظهر، ميليشيات مسلحة متنوّعة تقطع الطرق وتُوقف سيارات العابرين من المواطنين لتدقّق في هوياتهم، الطائفية بالطبع. وبناء على ذلك، إمّا ذبح على الهوية ورمي في مقابر جماعية أو في البحر أو في بئرٍ ما، وإمّا خطف وإخفاء قسري لهؤلاء المواطنين الذين كان كلّ ذنبهم أنّهم كانوا يمرّون في تلك اللحظة، هنا أو هناك، في جغرافيا الحرب الأهلية المفخّخة والقاتلة.
ومع ذلك، استقر الرأي العائلي على أن "نغامر". قلنا لا شك، بعد التحقيق الذي أجراه الجيش اللبناني ونفى فيه أن تكون الجريمة اغتيالًا سياسيًا، ستهدأ النفوس وتبرد الرؤوس، وسيقوم الجيش، الذي تحوّل في ظلِّ ترهل الأجهزة الأمنية إلى شرطة، بتأمين الطرقات في عطلة العيد. خصوصًا بعد ارتفاع صراخ التجار، مسلمين ومسيحيين، متحدين هذه المرّة غضباً من تخويف الناس في مناطق تنتظر العيد لتنفرج أساريرها الاقتصادية.
لكن، ما إن خرجنا من العاصمة حتى توقفنا في زحمةِ سيرٍ بدا أنّه لا نهاية لها. نتصل بمركز التحكّم المروري للسؤال عن السبب؟ فيقول إنّ السبب مواكبة أمنية وشعبية لجثمان الضحية.
ومع ذلك نستمر بالتقدّم في هذه الزحمة الخرافية، لكن متردّدين هذه المرّة، خصوصًا لمشهد أعلامِ هذا الحزب المرتبط بالذاكرة الأشدّ سوءًا في الحرب الأهلية، كونه أحد المسؤولين الرئيسيين عن قتل وإخفاء مئات اللبنانيين على خلفيةِ هويتهم الطائفية أو السياسية. مع أنّه، أي حزب القوات اللبنانية بالتحديد، أضاف إلى جرائمه جريمة الخيانة العظمى، حيث ثبتَ تعامله، والحزب الأم، أي "الكتائب"، مع جيش الأعداء خلال احتلالِ لبنان، لا بل تسليمه بعض من خطفهم من مواطنيه للمحتل الإسرائيلي.
تتكرّر انتكاسات الحرب الأهلية اللبنانية، تارة بفعل فاعل، وتارة أخرى بشكل طبيعي، كنتيجة للنظام اللبناني الفاسد
لكنّي، ولمرأى هذا الجمع الذي بدا كما لو كان صورة بالأسود والأبيض من جرائد قديمة، فجأة، بدأتُ أتثاءب. مرّة، اثنتان، ثلاثة. لم أكن أقوى على إكمال جملة دون التثاؤب حتى دمعت عيناي. كنّا قد توّسطنا في تلك اللحظة زحمةَ سيرٍ اختلطت فيها السيارات بجماهير المشيعين/المحازبين، ممن وقفوا على جانبي الطريق، لكن لكثرتهم، اضطر بعضهم للنزول إلى الطريق الأسفلتية، فاختلطوا بالسيارات، وفي لحظةٍ، لمحت بينهم مسلحاً برشاشٍ بالكاد مموّهاً.
فاجأني التثاؤب مرّة أخرى حين نظر إلينا بالتحديد هذا الأخير، ثم برقت فكرة في عقلي: تذكرت أنّ التثاؤب كان أحد "عوارض" الحرب الأهلية التي يبدو أنّي لم أتخلص منها تماماً.
كيف ذلك؟ ببساطة، كنت خلال طفولتي، ولدى وصولِ سيارتنا العائلية المحمّلة بسبعة أطفال، يأمرنا والدي بأن نبقى هادئين، وألا نتفوّه بكلمةٍ تستفزُ المسلحين. هكذا كنّا نقبع في الخلف، ملتصقين ببعضنا وشاخصين لـ"عمو الشرير"، وهو يسأل الوالد عن اسمه، ومن أيّ منطقةٍ هو ليحدّد بالضبط هويته الطائفية، وبالتالي مصيره. يومها، بدأت بالتثاؤب كنوعٍ من الدفاع عن النفس أمام المسلح، للقول بأنّي غير مرتبكة، وبالتالي بريئة لا تُخفي شيئاً.
الغريب في الموضوع أنّ ردّة الفعل نفسها قرأت عنها في رواية "تفصيل ثانوي" (دار الآداب) للفلسطينية عدنية شبلي. كنت قد دُعيت مؤخراً إلى جلسةِ نقاشٍ للرواية في مخيم مار إلياس في بيروت بحضور الكاتبة، تطرّقنا فيها تحديداً إلى هذا الموضوع. فلقد فاجأني وصفها مرّات عدّة تثاؤبها هي الأخرى كعارضٍ كان ينتابها عند وصولها إلى حواجز الجيش أو الشرطة الإسرائيلية، في حين كانت يداها، مثلي، تتعرّقان وقلبها ينتفض بشدّة.
لا زلنا حتى اليوم نخاف من بعضنا، ولا نستطيع حين تتلاقى نظراتنا، مقاومة التثاؤب
لا شك أننا والفلسطينيين نعرف تماما تاريخ هذه المليشيا التي قامت بجريمة الحرب الموصوفة خلال حرب لبنان، أقصد مجزرة "صبرا وشاتيلا" التي كانت تتضمن نيّة الإبادة تحت قناديل القنابل المضيئة للجيش الإسرائيلي، مدربها وحليفها عندما كانت يحتل لبنان العام 1982.
واليوم ما زال هذا الحزب أميناً لماضيه. فلا أحد حاسبه أو حاسب أشباهه من أمراء الحرب الذين اشتركوا في تلك المرحلة القذرة، لا بل إنهم جميعاً أصدروا عفواً عن أنفسهم بأنفسهم. أمّا الضحايا؟ فلا أحد أنصفهم أو اعتذر منهم أو عمل على مصالحتهم والتعويض عليهم، على الأقل، كما حصل في جنوب أفريقيا أو في البوسنة.
تتكرّر انتكاسات الحرب الأهلية اللبنانية، تارةً بفعلِ فاعلٍ، وتارةً أخرى بشكلٍ طبيعي، كنتيجة للنظام اللبناني الفاسد، لتقول لنا إنّه، وعشية الذكرى التاسعة والأربعين لاندلاع هذه الحرب التي توافق غداً، ما زلنا جميعاً رهائن ملفاتها العالقة، والتي يُراد لها أن تبقى كذلك، ناراً تحت الرماد، تشتعل بقليلٍ من النفخ الطائفي عند الطلب.
وما زلنا حتى اليوم نخاف من بعضنا، ولا نستطيع، حين تتلاقى نظراتنا، مقاومة التثاؤب.