خسارة ليفربول... دروس الإخفاق

04 أكتوبر 2023
+ الخط -

منذ بضعة أيامٍ، تعرّض فريق ليفربول لكرة القدم إلى خسارةٍ كانت قاسيةً واستثنائيةً لأكثر من سببٍ. فهذه الخسارة حصلت نتيجة تعرّض ليفربول لظلمٍ تحكيميٍّ كبيرٍ ونادرٍ تجسد خصوصًا في إلغاء هدف صحيحٍ له وعدم تدخل الحكام المساعدين بواسطة تقنية الفيديو لتصحيح ذلك الخطأ؛ كما تجسّد في طردٍ، غير عادلٍ من منظور كثيرين، للاعبين من فريق ليفربول الذي اضطر إلى اللعب بنقصٍ عدديٍّ لمعظم فترات المباراة. كما أنّ الهدف الذي خسر ليفربول بسببه، جاء في الدقيقة الأخيرة من نهاية الوقت الإضافي أو المستقطع من المباراة، وبأقدامٍ صديقةٍ حيث سجله خطأً، في مرماه، مدافع الفريق جويل ماتيب.

وما يزيد من ميلودرامية الخسارة واستثنائيتها أنّها جاءت بعد سبع عشرة مباراةٍ لم يخسر فيها ليفربول، كما جاءت بعد خسارة بطل الدوري ومتصدر جدول الترتيب، مانشستر سيتي، بحيث إنّ فوز ليفربول في تلك المباراة كان سيجعله متصدرًا لجدول الترتيب. وينبغي عدم الاستهانة بخسارة النقاط الثلاث أو خسارة نقطة التعادل على الأقل، وربّما يكفي التذكير أنّ فريق ليفربول قد خسر، في السنوات الأخيرة، فرصة الفوز ببطولة الدوري الإنكليزي، مرّتين، بسبب تفوّق فريق مانشستر سيتي عليه بفارق نقطةٍ واحدةٍ فقط.

ما زالت عقابيل تلك الخسارة ومفاعيلها تتوالى. ما أريد التركيز عليه، هنا، هو ردّي فعل المدير الفني لفريق ليفربول، يورغن كلوب، وحارس مرمى الفريق أليسون بيكر. فهذا الأخير كان "رجل المباراة" بحقٍّ، وقام، في تلك المباراة، بأكبر عددٍ من التصديات في مباراةٍ من مباريات الدوري الإنكليزي حتى الآن، ومن بينها تصديات لأهدافٍ أو فرصٍ محقّقةٍ. وعلى الرغم من ذلك، أو بسببه، كان أليسون أوّل من سارع إلى تطييب خاطر "ماتيب"، وإبداء التعاطف معه، ومحاولة شدّ أزره ورفع معنوياته بعد أن سجل ذلك "الهدف القاتل" في مرماه. وقد كان ردّ فعل "أليسون" نموذجًا اقتدى به، تقريبًا، كلّ مشجعي ليفربول الذين لم يُظهروا عمومًا عبارات التهجّم والازدراء المهينة في تعليقاتهم على خطأ "ماتيب" في المباراة على وسائل التواصل الاجتماعي، كما يفعل عادةً مشجعون كثر في مثل هذه السياقات. وبهذا، لم يتم تحويل الخطأ إلى خطيئةٍ، ولم تتضمّن ثقافة الاعتراف بالإيجابي، في هذه الحالة، تعاملًا احتقاريًّا مع ما هو سلبيٌّ، وهو ما تحدثت عنه في مقالي السابق عن "الأعمال والنيات في مجتمع الاعتراف والاحتقار".

ولإدراك رقي رد فعل "أليسون" ورفاقه على خطأ "ماتيب"، يمكن التذكير بفعلٍ يعبّر عن الانحطاط المقابل. ففي إحدى مباريات كرة القدم في دورة ألعاب المتوسط التي أقيمت في سورية عام 1987، تلقى لاعب المنتخب السوري سامر درويش بطاقةً حمراء وهي تعني طرده من الملعب. وأثناء خروجه من الملعب، لاقاه المدير المدعوم للمنتخب السوري آنذاك، فاروق سرية، والذي كان يدخن سيجارةً وقتذاك، ووجّه له صفعةً قويةً، على مرأى ومسمع من آلاف من الحاضرين في الملعب، والملايين من المشاهدين عبر التلفاز، وهو يضع السيجارة بين أصابعه!

بالإمكان، دائمًا تحويل الخسارة إلى ربحٍ من خلال جعل الفشل أو الإخفاق خطوةً في طريق النجاح أو درجةً صاعدةً في سلم التعلّم والترقِّي

في ردّ فعله الذي جاء مباشرةً بعيد نهاية مباراة ليفربول المذكورة، أعلن "كلوب" أنّه لم يكن في أيّ وقتٍ سابقٍ أكثر فخرًا بفريقه وبلاعبيه مما هو عليه بُعيد تلك المباراة. وأكَّد أنّ ما علمه في تلك المباراة عن فريقه، وما أدركه من مدى جودة لاعبيه وفريقه وإمكاناتهم الكبيرة، من خلال ردود فعلهم على ما حصل معهم أثناء تلك المباراة، كان أكبر وأهم من كلّ ما علمه وأدركه، خلال فوز فريقه في المباريات السابقة. ما أودّ التشديد عليه، هنا، هو أنّه، بالإمكان، دائمًا تحويل الخسارة إلى ربحٍ من خلال جعل الفشل أو الإخفاق خطوةً في طريق النجاح أو درجةً صاعدةً في سلم التعلّم والترقِّي.

في مقالي السابق المذكور، أبرزت فكرة أنّ "الحياة لا ترحم"، وأنّ الأعمال بالنتائج، وليس بالنيّات، في كثيرٍ من السياقات. ما أودّ أن أشدّد عليه في هذا النص، يبدو مخالفًا جزئيًّا لما سبق، لكنه مكمِّلٌ له أيضًا. من المفيد والضروري للبشر تطبيع علاقاتهم مع الخسارة والإخفاق والفشل، ليس بمعنى الاستسلام أو رفع الراية البيضاء والرضوخ للقدر، وفقًا لتأويلٍ ما للقول الرواقي الشهير "إن لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون"، بل بمعنى المقاومة ورفع راية التحدّي، والبحث عن الإيجابيات، لمحاولة البناء عليها، وعن السلبيات لمحاولة تجنّبها أو التقليل منها، والتخفيف من حضورها وتأثيراتها، قدر المستطاع.

من المفيد والضروري للبشر تطبيع علاقاتهم مع الخسارة والإخفاق والفشل، ليس بمعنى الاستسلام أو رفع الراية البيضاء والرضوخ للقدر، بل بمعنى المقاومة ورفع راية التحدّي

يمكن لردّ الاعتبار لحالات الإخفاق والخسارة والهزيمة والفشل أن تكون عاملًا مساعدًا على تجاوز تلك الحالات والتقليل من سلبياتها. وينبغي ألا نستنتج من التشديد البراغماتي على أهمية النتائج، وليس على أهمية النيّات والمقاصد، أنّه ينبغي علينا أن نختار بين مبدئيةٍ أخلاقيةٍ وبراغماتيةٍ لا أخلاقيةٍ. فأخذ النتائج في الحسبان أمرٌ ضروريٌّ وجزءٌ ملازمٌ، أو ينبغي أن يكون ملازمًا، لكلّ رؤيةٍ أو منظومةٍ أخلاقيةٍ. ويمكن أن نستحضر هنا تمييز عالم الاجتماع، ماكس فيبر، بين أخلاق القناعة وأخلاق المسؤولية، من حيث إنّ الاخلاق الأولى تركز على تنفيذ الشخص لقناعاته بغضّ النظر جزئيًّا عن نتائج ذلك التنفيذ، في حين أنّ الأخلاق الثانية، تأخذ في الحسبان، بالدرجة الأولى، نتائج ذلك التنفيذ. وعلى الرغم من أنّ الإنسان قد يجد نفسه في حالة صراعٍ بين هذين النوعين من الأخلاق أحيانًا، فمن الضروري التشديد، من ناحيةٍ أولى، على وجوب أن تأخذ كلّ أخلاقٍ الأخلاق الأخرى في الحسبان، وتدخل معها في علاقةٍ جدليةٍ تكامليةٍ، وليس في علاقةٍ جداليةٍ تناحريةٍ؛ ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، على إمكانية أو ضرورة أن تكون الرؤية البراغماتية رؤيةً أخلاقيةً وأن تكون الرؤية الأخلاقية رؤيةً براغماتيةً.

قد يكون الإخفاق مراوحةً في المكان أو خطوةً إلى الوراء بمعنى ما، لكنّنا نعلم أنّ القفزة إلى الأمام تبدأ دائمًا بخطوةٍ ما إلى الوراء. والشخص الفاشل ليس من يخفق أو يخسر أو يفشل في هذه المحاولة أو تلك، وإنما هو من يتوّقف عن محاولات تحسين أدائه والسعي إلى النجاح في مراتٍ قادمةٍ.

النصّ جزءٌ من مدوّنة "الفلسفة والناس" التي تتناول نصوصًا حول الأفكار الفلسفية، لكن بطريقة مبسّطة عبر استعراض أمثلة من حياة الناس وتجاربهم.
حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".