"حياة الماعز"... ما قبل العودة
"لا أذكر!"
في البداية، ظنّه "نجيب" بطل فيلم "حياة الماعز" طوقَ النجاة الوحيد في سجنه الذي ضاق عليه من شدّة اتساعه وإحكام القبضة على حريّته بحواجز اللغة، لأنّ سجانيه لا يتحدّثون إلّا العربيّة التي لا يعرف منها إلّا كلمة واحدة "كفيل". لكن الهندي الذي سبق "نجيب" إلى العمل في مرعى الأغنام وسط الصحراء القاحلة، قد نسي اسمه بالفعل، ونسي أغلب مفردات لغته الهنديّة، ولا يذكر حتى اسمه لأنّ "الكفيل" لم يكن يناديه إلّا يا "هندي".
سواء اتفقت أو اختلفت مع رسالة فيلم "حياة الماعز" وأهدافه ودوافع إنتاجه، لكن لا أحد ممّن شاهده يختلف على درجة الإبداع الفني التي وصل إليها، سواء إخراجًا أو تمثيلًا، وقبل ذلك كتابة. ومن شواهد هذا الإبداع، أنّ أحدًا من المشاهدين لم يكن يعلم شيئًا عن تاريخ شخصيّة الراعي الهندي غريبة الأطوار، ولا حتى الفيلم اهتمّ بذكرها، لكنّي باعتباري مشاهداً استطعت استنتاج ما حدث له بالتفصيل بمجرّد عرض المشهد الأسطوري، أو بلغة السينما الـ"ماستر سين" لبطل الفيلم، وهو يروي ظمأه من حوض المياه المُخصّص للأغنام، بل وتشاركه الأغنام الشرب، وقد تحوّل شكله تمامًا، كشكل زميله الهندي بعد أن تعرّض للضرب المبرح وكسر قدميه.
قبل تلك الحادثة المؤلمة التي أبدع الجميع في إخراجها، كان نجيب قد رأى مستقبله في جثّة زميله الهندي والنسور تنهشها، حاول الهرب لكن "الكفيل" أدركه وكسر قدميه وقيّده في الحظيرة حتى استطاع فكّ قيده، لا ليهرب هذه المرّة، وإنّما ليروي ظمأه، مثله كمثل الماعز الذي يرعاه، وقد كان قبلها دائم الاعتراض على "الكفيل"، وعلى ظروف العمل وحاول الهروب أكثر من مرّة. وكان عندما يقمعه "الكفيل" يلجأ إلى ذكرياته مع زوجته وأمّه وأهل قريته، ويتذكر كذلك عمله في الهند سباحاً يستخرجُ الرمال من قعر الأنهار. كان يتوق إلى هذا العمل الشاق، على الرغم من أجره الزهيد، لأنّ مشقته كانت بطعم الحريّة، لكن الذكريات هذه لم تعاوده مرّة أخرى بعد الحادثة الأخيرة.
لم يجرؤ "نجيب" على التقاطِ قصاصة ورق تركها له صديقه الذي أتى معه من الهند إلّا بعدما غفلت عنه عينا "الكفيل" للحظة
تحوّل "نجيب" كصاحبه الهندي الراحل تمامًا إلى مسخ، مزيج بين البشر والماعز، يتحدّث إليهم، يأكل ويشرب مثلهم ومعهم، حتى حين قدّم إليه "الكفيل" في لحظةِ كرمٍ نادرة قطعة لحم لم يضعها في فمه احترامًا لإخوانه الجدد من الماعز. لكن شيئًا ما كان يجدّد فيه غريزة البشر مرّة أخرى، وحاول الحفاظ عليه حتى آخر لحظة قبل قرار هروبه الأخير ونيل حريّته، إنّها علبة المخلّلات الهنديّة التي أهدتها إليه والدته قبل سفره.
ذكرني ذلك برائعة الكاتب الإنكليزي المعروف، جورج أورويل، وأعني رواية "1984"، حين كان "الأخ الأكبر" يخصّص وزارة كاملة، فقط لتزييف التاريخ ومحو المقالات والأخبار القديمة أو تحريف مضمونها لتغييب وعي عامة الشعب ومحو ذاكرته، فيسهل السيطرة عليهم كقطيع الماعز. وللمفارقة، كانت تلك الوزارة تُسمّى "وزارة الحقيقة"، أمّا من يُقبض عليه ومعه ورقة أو قصاصة من مقال أو كتاب قديم، فكان يُلقى في سجنٍ، يكون الموت السريع فيه أسعد آماله، لذلك لم يجرؤ "نجيب"، على التقاطِ قصاصة ورق تركها له صديقه الذي أتى معه من الهند إلّا بعدما غفلت عنه عينا "الكفيل" للحظة.
الذكرياتُ قد تكون هي خطّ الدفاع الأخير عن حريّتنا وهُويّتنا وثقافتنا قبل أن يمسخنا قمع الظروف المُحيطة، فنتخلّى عن بشريتنا ونصبح أحد أفراد القطيع. والقمع ليس فقط كفيلًا يضرب بالعقال ويكسر الأقدام، لكنه قد يكون أجندة أو سياسة أو أمرًا واقعًا، تحسب أنّك اخترته بإرادتك الحرّة إلى حين، وتعتقد أنّك تستطيع الاعتراض عليه إذا وجدت فيه خطرًا عليك أو على أهلك، لكنّك حين تفكر في الاعتراض عليه، ستجد نفسك مهدّدًا بفقدان مميزات "حياة الماعز"، فتخنع وتعود مختارًا إلى الحظيرة مرّة أخرى.
فإن كان لا مفرّ من الحياة وسط الماعز، على الأقل تمسّك بالذكريات ليرثها أولادك، لأنّها قد تكون الدافع الوحيد حين تدق ساعة الحريّة ومن ثم العودة.