التعاطف والشماتة بين لبنان وفلسطين وسورية
ربّما نكون قد اعتدنا مشاهد القتل والدمار التي تتوسّع يومًا بعد يوم لتلتهمَ مساحاتٍ جديدةً من منطقتنا المنكوبة، وربّما اعتدنا سماع تأييد السياسيين والإعلاميين أو انتقادهم للمقاومة وداعميها، كلّ حسب توجّهه. لكن عندما بدأت نيران الحرب تنشب في ثوب حزب الله اللبناني، بدايةً من تفجيرات أجهزة البيجر وليس انتهاء بمقتل زعيمهم التاريخي، حسن نصر الله، بدأتْ مشاهد جديدة وصادمة تظهر في الإعلام؛ أفراح ومسيرات ابتهاج في مناطق الشمال السوري وتبادل رسائل التهاني بين الكثير من السوريين في بلاد المهجر، يقابله حزن وبكاء ودعوات للانتقام في فلسطين ولبنان، والجديد في هذا المشهد أنّ الأمر لم يعدْ محصورًا في النخبة، بل الشعوب هي التي تفرح أو تحزن، وهي التي تتبادل الاتهامات أو اللعنات.
أعود بالقارئ الكريم إلى عام 2006 أثناء حرب تموز، وأتجوّل به في شوارع القاهرة ليرى التظاهرات تخرج من الجامعات المصريّة والوقفات على سلالم نقابتي المحامين والصحافيين تأييدًا لحزب الله الذي يقاوم العدوان الإسرائيلي الغاشم على لبنان، والذي انتهى بالانسحاب، ومن ثمّ انتصار الحزب على إسرائيل. وبعدها لم تعد ترى تقريبًا، محلًا تجاريًّا أو سيّارة أو مقهى شعبيًّا لا يعلّق صور السيّد حسن نصر الله، والتي كانت توزّع مجانًا مع الصحف والجرائد. كان هذا في شوارع القاهرة وليس في الضاحيّة الجنوبية لبيروت.
كان الناس حينها يلتفون حول شاشةِ التلفاز ليستمعوا للزعيم الجديد الذي رأوا فيه بعثًا جديدًا للروح العربيّة والإسلاميّة بما أُوتي من كاريزما وبلاغة وشجاعة توِّجت بانتصارٍ على العدو التاريخي للعرب بوجهٍ عام وللمصريين بوجهٍ خاص، حتى إنّه حين خرج بعدها السيّد حسن نصر الله في حوارٍ إعلاميٍّ ليتكلّم عن علاقته بإيران وحبّه للدراسة في مدارس قم الشيعية لم يعر المشاهدون انتباهًا كبيرًا لهذا الأمر، ولم ير أغلب الناس أنّ هناك خلافًا يُذكر بين السنة والشيعة. بل وقد لا أكون مبالغًا إن قلت إنّ أغلب المصريين حينها كانوا يخلطون بين "الشيعة" و"الشيوعية"، وحين ينهاهم أحد المتحذلقين عن تأييد حزب الله لأنّه شيعي كانوا يتهمونه بالتشدّد وتكفير المسلمين!
اختلّت المعادلة حينما قرّر حزب الله التدخّل العسكري في سورية لقمع الثورة هناك ولدعم نظام بشار الأسد
الأمور حينها كانت بسيطة والمعادلة لها طرفان فقط؛ العرب والمسلمون في طرفٍ وإسرائيل وأعوانها الغربيون في الطرف المقابل، والعلاقة بينهما عكسية، وكلّما زادت قوّة طرف ضَعُفَ الآخر، لكن الأمور لم تعدّ بتلك السطحيّة وتعدّدت المتغيّرات في المعادلة بعد أحداث الربيع العربي، وخاصة الثورة السورية والحرب على تنظيم داعش، فأصبحت أكثر تعقيدًا.
اختلّت المعادلة حينما قرّر حزب الله التدخّل العسكري في سورية لقمع الثورة هناك ولدعم نظام بشار الأسد، وحينما قرّرت إيران التعاون مع "الشيطان الأكبر" للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومن ثمّ تغيير التركيبة الديمغرافية في العراق، بعد تهجير قسم من سنّة العراق، باعتبارهم الحاضنة الشعبية للتنظيم الإرهابي! وهكذا أصبح العرب بين فكّي كماشةِ مشروعين توسّعيين يعملان في المنطقة نفسها، تتوافق إرادتهما أحيانًا ضدّ بعض التنظيمات أو الأنظمة وتتعارض أحيانًا أخرى، فاختلّ الميزان القديم عند المواطن العربي المنكوب الذي لا يرى نفسه إلا فريسةً حاليةً أو محتملة لأحد المشروعين أو كلاهما بعدما رأى بعينيه ما حدث في السابق للسوريين والعراقيين، وما يحدث أمامه الآن للفلسطينيين واللبنانيين.
اختلفت المعادلة لكن أسلوب تفكير المواطن العربي البسيط لم يختلف كثيرًا، واتهامات التخوين والعمالة والتكفير المتبادلة على مواقع التواصل الاجتماعي خير دليل على ذلك، ومن هنا نشأت فلسفة التعاطف والتشفّي التي تضمن لكلِّ فريقٍ الاحتفاظ بعدد أكبر من الأنصار والأتباع والمتابعين، كذلك عبر التحشيد وإثارة العواطف والنعرات بعيدًا عن إعمال العقل والتفكير النقدي الذي يستلهم النتائج من رحم الحقائق والتاريخ لا من لهيب العواطف المنفلتة.
التعاطف أو الشماتة هي مشاعر إنسانيّة فطريّة، والدعوة إلى التسامي عنها أو تجاهلها شكل من أشكال المثاليّة الحمقاء، لكن يجب ألّا يعمينا التعاطف عن جرائم ارتُكبت وما زالت في حقِّ أبرياء، ولا أن تسحبنا الشماتة إلى مستنقعاتِ الفرح والاحتفاء بجرائم تُرتكب في حقِّ أبرياء آخرين، خاصّة أنّ غاية ما يملكه كلا الفريقين المتشاكسين لا يعدو إلّا أن يكون بعض منشوراتٍ على مواقع التواصل الاجتماعي تنفّث عن المشاعر المكبوتة أو تجلب مزيدًا من المتابعين والمشاهدات لبعض "المؤثرين"، فوفّر عزيزي القارئ وقتك وجهدك وعقلك ومشاعرك إلى معركةٍ تكون أنت فيها صاحب يد حقيقيّةٍ تدفع بها ضررًا أو تجلب بها منفعةً.