تحولات الفكر والمسار.. مقارنة بين الشرع وقطب
يعدّ التحول الفكري والعملي للقيادات الجهادية والإسلامية إحدى أبرز الظواهر المثيرة للجدل في تاريخ الحركات الإسلامية، فغالبًا ما ترتبط هذه التحولات بالظروف السياسية والاجتماعية التي تحيط بها. في هذا السياق، تمكن مقارنة مسار أحمد الشرع، المعروف بـ"أبو محمد الجولاني"، زعيم هيئة تحرير الشام، مع المفكر الإسلامي سيد قطب، الذي يعتبر رمزاً لتأسيس الفكر الجهادي في العصر الحديث.
أولًا: تحولات سيد قطب – من الفكر التنويري إلى الجهادية
بدأ سيد قطب حياته الفكرية ناقداً وأديباً ينتمي إلى تيار التنوير والانفتاح، وكان يعبر عن أفكاره في مجلات تعرف بتوجهاتها الليبرالية مثل مجلة "روز اليوسف". بل إن سيد قطب كتب في مجلة "التاج المصري" مقالًا بعنوان "لماذا صرت ماسونياً؟"، وهو ما يعكس انخراطه في شبكات فكرية مختلفة بحثاً عن إجابات حول أزمات مجتمعه. كما كان داعماً في البداية لانقلاب الضباط الأحرار عام 1952، الذي أطلق عليه "الحركة"، ما يظهر تأثره بمشاريع التغيير الثوري آنذاك.
لكن قطب مر بتحول جذري في فكره بعد عودته من أميركا، حيث اصطدم بما اعتبره "انحلالاً أخلاقياً" و"أزمة الحضارة الغربية". ومع تصاعد ممارسات النظام المصري ضد جماعة الإخوان المسلمين، انحاز قطب إلى الفكر الجهادي الراديكالي.
رغم أن قطب في بدايته لم يكن يحمل أي ود تجاه جماعة الإخوان المسلمين، إذ بحسب عدد من المصادر، كان سيد قطب ينعت مؤسس الإخوان المسلمين حسن البنا بحسن الصباح، زعيم فرقة الحشاشين.
مع تقلد حسن الهضيبي منصب المرشد العام للإخوان، نهج سياسات الإصلاح، ودعا إلى تغيير جذري، رافضاً وجود تنظيم سري للجماعة يشتغل بعيداً عن مرشد الجماعة.
وبعد تمكن الهضيبي من إبعاد عدد من قيادات مكتب الإرشاد، وتفكيك التنظيم الخاص وإبعاد أميره عبد الرحمن السندي، بدأ نجم سيد قطب يلمع قائداً الجناحَ الجهادي للجماعة بمساعدة زينب الغزالي ومباركة المرشد العام.
كتب قطب "معالم في الطريق"، الذي أصبح "دستوراً" للحركات الجهادية العالمية، مشيراً إلى ضرورة "المفاصلة" مع المجتمع الجاهلي وشرعية التمرد المسلح على الأنظمة الحاكمة.
تحولُ قطب من ناقد ليبرالي إلى داعية إسلامي متشدد يُفسَّر بأنه نتيجة الإحباط السياسي والشخصي، إضافة إلى تصاعد الاستبداد في مصر في تلك المرحلة.
ثانيًا: أحمد الشرع (الجولاني) – من السرية إلى الوجه السياسي
على الجانب الآخر، أحمد الشرع أو "الجولاني" بدأ مسيرته أميراً لجبهة النصرة، الذراع السورية لتنظيم القاعدة. منذ ظهوره الأول، ارتبط اسم الجولاني بالسلفية الجهادية التي اعتمدت أساليب القتال العنيف لتحقيق أهدافها. كان الجولاني في بداياته يخفي وجهه، ويتبنى خطاباً جهادياً صارماً يرفض الاعتدال السياسي ويدعو إلى إقامة "الإمارة الإسلامية".
لكن خلال السنوات الأخيرة، شهدت شخصية الجولاني تحولات دراماتيكية. في مقابلاته الإعلامية، بدأ يظهر بوجه مكشوف ويرتدي الزي الرسمي بدل اللباس الجهادي التقليدي، بل قص حتى لحيته التي كان يطلقها على شاكلة بن لادن والظواهري، محاولاً بذلك رسم صورة أكثر اعتدالاً وتقديم نفسه "رجلاً سياسياً" يطمح لإدارة منطقة حكم ذاتي وليس بالضرورة "إقامة خلافة إسلامية". من الواضح أن الجولاني يسعى لتبني نسخة السياسي الإسلامي، على غرار تجربة جماعة الإخوان المسلمين الذين نجحوا في الوصول إلى السلطة مؤقتاً بطرق سلمية، رغم انتقاداته السابقة لهم حيث قال إنهم وصلوا إلى الحكم ولم يطبقوا شرع الله وحكموا بقوانين وضعية، وذلك في برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة قبل سنوات قليلة.
تحولات الجولاني تمكن قراءتها بطريقتين:
- تكتيك مؤقت: يمكن أن يكون تحول الجولاني مجرد تكتيك سياسي يهدف إلى تهدئة المجتمع الدولي واكتساب الشرعية المحلية، بينما يحافظ على جوهر مشروعه الجهادي. أي أنه يخفي خلف قناع "الاعتدال" نياته إعلانَ إمارة إسلامية مرتبطة بالقاعدة متى سنحت الفرصة.
- تغيير حقيقي: بينما قد يسير الجولاني نحو براغماتية سياسية فرضتها الظروف الدولية والمحلية، وأنه أدرك استحالة تطبيق نموذج "الخلافة" على غرار تنظيم داعش، فاختار استراتيجية إمارات محلية أكثر مرونة وقابلية للتطبيق.
ثالثًا: نقاط التشابه والاختلاف
التحولات الفكرية: كلا الرجلين (قطب والجولاني) شهد تحولات في مساره الفكري. قطب انتقل من التنوير إلى التشدد، بينما يظهر الجولاني كمن يسير في الاتجاه العكسي – من التشدد إلى البراغماتية السياسية.
السياقات الزمنية: تحول قطب جاء ردَّ فعل على الاضطهاد السياسي في مصر، بينما تحولات الجولاني مرتبطة بالمعادلة المعقدة للحرب السورية والضغوط الدولية على الجماعات الجهادية.
الخطاب: سيد قطب ظل مخلصاً لفكر "الجهاد العالمي" وضرورة المواجهة العنيفة مع الأنظمة "الجاهلية"، بينما الجولاني يحاول تقديم خطاب أكثر ليونة، يركز على الإدارة المحلية والبعد عن الصدام مع المجتمع الدولي.
في النهاية، يمكن القول إن تحول الجولاني من زعيم جهادي متشدد إلى "سياسي إسلامي" ظاهرياً يطرح تساؤلات عميقة حول مدى مصداقية هذا التغيير. فهل هو تحول استراتيجي حقيقي يعكس مراجعة فكرية، أم أنه مجرد "ذر للرماد في العيون" لتحقيق أهداف مؤقتة؟ كما أن المقارنة مع سيد قطب تذكرنا بأن التحولات الفكرية للشخصيات المؤثرة غالباً ما تكون معقدة ومتشابكة، تعكس تأثير الظروف السياسية والاجتماعية على مسار الأفراد والجماعات.
يبقى السؤال مفتوحاً: هل ينجح الجولاني في إعادة إنتاج تجربة الإسلام السياسي على نهج الإخوان المسلمين، أم أنه سيعود إلى جذوره الجهادية عندما تسنح الظروف؟