تجارب أبو خربوش العجيبة

تجارب أبو خربوش العجيبة

02 يناير 2024
+ الخط -

كان صديقي أبو سعيد ينتظر سماع القصة الشهيرة التي تميّز بها الفتى الأهبل الكذّاب أبو خربوش، وعنوانها "أنا معلم خراطة وتسوية". اليوم، وبمجرّد ما بدأ الاتصال بيننا، قال: لا تنس حكاية أبو خربوش مع أبو حسن، صاحب المخرطة.

- ولكنك تعرفها.

- كنت أعرفها، ولكنني نسيت الكثير من تفاصيلها. وأنا، بصراحة، أستغرب قوة الذاكرة الموجودة لديك وأنت، ما شاء الله، تجاوزتَ السبعين.

- أعترف لك، يا أبو سعيد، أنّ ذاكرتي ليست قوية، وياما نسيت أشياء مهمة تخصني، وتلزمني، ولكنني أستعين على ضعف الذاكرة بالتأليف. حكاية أبو خربوش هذه، مثلاً، رويتها أكثر من مرّة، وفي كلّ مرّة أنسى منها حدثاً فأخترع مكانه حدثاً آخر، وهذا يجعلني أغيّر القفلة لكي تكون مناسبة للحدث الذي ابتكرته. 

- رائع. هذا يعني أنني سأسمعها منك الآن بطريقة جديدة.

- يا سيدي، العنصر الأساسي فيها أنّ العم أبو مجيد، والد الفتى أبو خربوش، يئس من نجاح ابنه "أبو خربوش" في تعلّم مهنة، أو صنعة، فقرّر أن يشغله بصفة أجير عادي. أخذه، مرّة، إلى دكان أبو حسن، صاحب المخرطة. وطلب منه أن يشغله عنده. 

قال أبو حسن: يا عمي أبو مجيد، أنا دارس في الثانوية الصناعية، ثم في المعهد الصناعي، فضلاً عن خبرتي في أعمال الخراطة، منذ عشر سنوات، وأمّا ابنك أبو خربوش فليس لديه أيّ علم أو دراية أو خبرة. فماذا يستفيد من العمل عندي؟ وماذا يمكن أن أستفيد أنا منه؟   

- ذهنك، يا أبو حسن، راح لبعيد، ابني هذا الذي تراه بحجم الحمار، صار عمره 19 سنة، ولم يستفد شيئاً، في أيّ وقت مضى، ولم يستفد منه أحد بشيء، ما أقصده أن تقعده عندك، وتتصرف معه كما لو أنّه المنديل الذي تمسح به يديك بعد تناول الزفر، وعندما يكون لديك عمل وسخ، يحتاج إلى غباء، اجعله من نصيبه، وإياك أن تأخذك به شفقة. 

المهم؛ يا أبو سعيد، وافق أبو حسن على تشغيل أبو خربوش على مضض، وأبو خربوش بالدوام عند أبو حسن، تسعة أيام، وفي اليوم العاشر ضربه أبو حسن بالبوكس، فنبقت له فوق عينه كتلة، يسميها أهل الشام "نبيرة" ونحن في إدلب نسميها بعجورة، أو فنانة، وبعد ذلك، أمسكه، ووضع يده على كتفه، وقال له: أين تقع داركم يا سيد أبو خربوش؟ في أي اتجاه؟ 

- من هنا. 

- عظيم. الآن اذهب من هنا إلى داركم بشكل مستقيم، لا تلتفت يميناً أو يساراً، وإذا سألك والدك عن السبب، قل له هذا معلمي أبو حسن رجل حقير، أساء معاملتي، وضربني بالبوكس. فهمت؟ 

ثم دفعه من الخلف، فانطلق أبو خربوش بفعل القوة النابذة إلى الأمام، وتابع طريقه، وعندما وصل ساحة الخضار، تجمّع حوله أصحابُه، وبعض أولاد الحارة، وصاروا يستفهمون منه عن هذه "البعجورة" التي فوق عينه، وكعادته لجأ أبو خربوش إلى الكذب، والتباهي بما يعرفه هو دون الآخرين. فقال:

- كنت واقفاً وراء المخرطة، أنجز آلة لتعشيب الحديقة، أوصاني عليها أحد الزبائن، وكان هذا العمل يتطلب تركيزاً، لذلك طلبت من معلمي أبو حسن أن يتوقف عن الحركة وإحداث الضجيج في المكان، ولكنه أحبّ أن يتدخل في شغلي، وتقدّم مني واقترح عليّ إضافة مسنن آخر في البكرة، وأنا عندما أشتغل في الخراطة يكون مَوَّالي من رأسي، ولا أحب أن ينق عليّ أحد، رفعت يدي، لأنهيه عن التدخل، وإذا بذراع المخرط ينفلت، ويضربني فوق عيني! 

قال له الآن اذهب من هنا إلى داركم بشكل مستقيم، لا تلتفت يميناً أو يساراً، وإذا سألك والدك عن السبب، قل له هذا معلمي أبو حسن رجل حقير، أساء معاملتي، وضربني بالبوكس

ضحك أبو سعيد وقال: أرى أنّ معلمية أبو خربوش في مهنة الخراطة جعلت المعلم أبو حسن يصفّ على اليمين!

- المهم؛ مرّ يومان وأبو مجيد لا يعلم أنّ ابنه المحترم قد ترك الشغل، لأنّ أبو خربوش كان يستيقظ في الموعد المحدد للشغل، ويخرج، ولا يعود إلى الدار قبل انتهاء وقت الدوام، ولكن حادثة بعينها جعلته ينتبه إلى ذلك، وهي أنّه كان ماشياً في ساحة البازار، وإذا بأبو سالم القبلي يقترب منه، ويسلم عليه، ثم يقول له:

- لك، أم للذئب يا أبو مجيد؟

- ليخسأ الذئب.

- لي عندك طلب، وآمل أنك لن تخجلني.

- تفضل. أنا في خدمتك.

- أنت تعلم أنّ لديّ معصرة زيتون، وهي صناعة إيطالية، وفيها قطعة حساسة جداً، تشبه الإسفين الذي ينتهي بلولب، تعطلت، فتوقفت المعصرة عن العمل، والمشكلة أنّ عندنا موسمًا، والناس ينتظرون دورهم لعصر الزيتون.

- غريبة. لماذا تقول هذا الكلام لي أنا؟

- لأنك تمون على ابنك أبو خربوش، فأرجوك اطلب منه أن يخرط لي قطعة مثل القطعة الأصلية، وكم تكلف هذه العملية أنا رقبتي سَدَّادة!

فهم أبو مجيد أنّ الرجل يسخر، واستنتج أنّ ثمّة مشكلة يمر بها أبو خربوش، فاتجه من توه إلى المخرطة، وفوجئ أنّ ابنه غير موجود، وسرعان ما تقدّم منه أبو حسن، وسلم عليه، وطلب منه أن يجلس، ليضيّفه كأساً من الشاي، ففعل. وبعدما جلسا راح أبو حسن يعتذر لأنه ضرب أبو خربوش بالبوكس. وهذه المعلومة لم يكن أبو مجيد يعرفها، ومع ذلك قال:

- يستأهل. والله لو أنك عجقته بقدميك أنا لا أزعل منك. ولكن قل لي: ماذا فعل؟

- ابنك، كما تعلم، يلبس في قدميه جاروخاً ديرياً عتيقاً. صحيح؟

- نعم صحيح.

- في فرصة الغداء، تركت العمال في المحل، وذهبت إلى دارنا، وحينما رجعت، وقبل أن أصل، سمعت ضحكات العمال تملأ المكان. اقتربت منهم رويداً رويداً، لأرى ما يحصل، وإذا بابنك المحترم، السيد أبو خربوش، قد وضع فردة الجاروخ في المخرطة، وأنزل فيها جهاز الثقب، وهو يشرح للعمال خطته، وهي أن يثقب الفردة الثانية، ثم يضم الفردتين ببرغي عريض، ويضع له "رنديلة" من الطرف الثاني، وهكذا تتحوّل الفردتان إلى فردة واحدة، مهما حاول الإنسان لبسها في قدميه، لن يستطيع ذلك!

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...