بصمات الكون

10 اغسطس 2024
+ الخط -

من المجحف قراءة الأدب والإبداع بصفة عامة بالتحليل النفسي لنفسية الكاتب أو المبدع، أن تضع نظارات طبية وتبدأ بتشريح النصوص كطبيب، معتبرًا أن تلك النصوص هي صف طويل من المرضى. أمر كهذا يجعل من الكتابة والإبداع نتائج سخيفة لمسببات أسخف منها. عدد كبير من الكُتّاب والمبدعين أُصيبوا أو سيُصابون بأمراض نفسية.

لكن هذا لا يعني أن عملية الإبداع عملية سلبية إلى حد أنها مجرد ردود أفعال عرضية، بل في أحيان كثيرة يكون العكس هو القاعدة، أن يصير الارتباط بالإبداع ارتباطًا جوهريًا هو المسبب لأمراض نفسية واضطرابات. أن نخمن للحظة واحدة أن الإبداع نتيجة حتمية للمرض النفسي، هذا القصور في الفهم والإدراك والتحليل يجب أن يؤدي بهذا الطرح إلى أقصاه.

إذ علينا أن ننتظر مباشرة من أي مريض نفسي أن يكون كاتبًا (فنانًا)، وأن تتدرج قوة الكتابة بتدرج قوة المرض، كلما كان المرض خفيفًا كانت الكتابة رديئة، وكلما كان المرض شديدًا ومتقدمًا كانت الكتابة فائقة العبقرية. من دون أن ننسى أن أغلب سكان العالم يعانون من أمراض وأزمات نفسية واضطرابات، سوى أنهم رغم ذلك لم يصبحوا بعد كُتّابًا! وهذا أمر غريب، أن يصير كاتبًا واحد فقط من مائة أو ألف مريض نفسي، من دون أن يكون نوع المرض النفسي الذي يعاني منه واختلافه عن أمراض نفسية أخرى له أي تأثير أو معنى في طرح مبهم كهذا.

ثم هذا كله لابد أن يقودنا إلى نتيجة منطقية للغاية، وهي أن الكتابة والإبداع بصفة عامة منتوجات مَرَضية محصورة في ما يجود به الجنون على العقل. بالتالي يصير من الشائع أن نعتبر المبدعين مجموعة من الحمقى العصابيين والذهانيين الذين يعيشون على هامش الواقع في مصحات خيالية هي الإبداع، وأن إبداعهم ذاك ما هو إلا قيؤهم النفسي الذي يتحول إلى نصوص أدبية أو لوحات أو نوتات موسيقية إلخ... بهذه النظرة المعاقة إلى الإبداع وإلى المبدعين نكون قد حددنا سلفًا علاقتنا بالإبداع والمبدعين، وأحطناها بهالة من الحذر والسخرية والسلبية التي نفهم عبرها الهوة السحيقة التي تفصل بين المبدع والمتلقي للإبداع في بلداننا، تلك الهوة التي تظل تتسع وتتعمق أكثر بمعاول أخرى يساهم فيها ما هو سياسي من أجل تثبيت هذا الانطباع الخاطئ أكثر في عقولنا، إلى حد الانفصال بين هذين العالمين، الإبداع والفاعلية في الواقع، الذين لا يمكن فصلهما إلا تعسفًا.

بينما العملية الإبداعية هي في حقيقة الأمر أكثر تعقيدًا بكثير من أدوات تحليل الأدب نفسيًا، خصوصًا بعد تجاوز تلك العملية لمرحلة الإرهاصات الأولى وردة الفعل إلى الوعي بالفعل وإنتاجه. إنها وعي اختياري بالعالم وبالذات، وموقف معرفي مؤسس على كفاءات وبراهين ذاتية وموضوعية بالنسبة إلى كل مبدع، والفاعلية تكون أكثر دقة وتأثيرًا كلما نتج ذلك عن عقل سليم أكثر وجسم سليم أكثر، وليس العكس. المعاناة في الغالب تكون سببًا لنكوص الإبداع وقتله وخنقه داخل نفسية المبدع، وتحويله من وعي إلى مسخ أو إعاقة، يكون علينا معها إخضاع النتيجة إلى مصفاة ترشح الاضطراب وحده على جنب والإبداع وحده على جنب آخر.

المعاناة في الغالب تكون سببًا لنكوص الإبداع وقتله وخنقه داخل نفسية المبدع، وتحويله من وعي إلى مسخ أو إعاقة

هذه كلها بالنسبة إلى مبدع، المعاناة أو عكسها، مجرد مهيجات، ولا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تكون الأصل، وإلا فكل مرضى ومعطوبي ومعاقي العالم وكل الذين تعرضوا إلى صدمات نفسية في الطفولة أو تعرضوا إلى كوارث ومحن واعتقالات وتعذيب يجب أن يتحولوا مباشرة إلى كُتّاب ورسامين وموسيقيين إلخ... لكن هذا (يا للعجب) لا يحدث أبدًا! ولن يحدث أبدًا، الشيء الذي يجعلنا قلقين أكثر إزاء بعض المسلمات الخاطئة التي لا تقف عند نظرة عمومية للأدب، بل تتجاوز ذلك إلى نقاد ومبدعين أيضًا من المفترض أنهم متخصصون في فهم الأدب والإبداع بصفة خاصة، مسلحون للأسف بهذه المشارط القاتلة، والبعيدة كل البعد عن جوهر الفن، إلى الانزلاق فوق سطحه وإثخانه بمزيد من الطعنات والأعطاب والغبار.

بل يجب البحث أبعد من أرنبة الأنف، للاستنتاج أبعد من خط الأفق المرئي بالعين المجردة، وأبعد من الخيال نفسه. وإعادة النظر في كثير من البديهيات والمسلمات التي تجعل من المجتمع بطقوسه اللامعقولة صورة للعقل والعقلانية والمنطق، ومن المبدعين صورة للشذوذ والجنون والغرائبية نسبة إلى مرجع المجتمع نفسه.

بل إننا أمام قوة خلاقة جبارة للعقل والروح الإنسانية لا يمكن احتواؤها في مقاييس ومكاييل جاهزة مسبقًا ومنمطة للوجود الإنساني، قوة تكسر الحدود والقوانين والمرجعيات وتتشكل في نصوص أدبية وأعمال فنية، وهي نتيجة لمعادلات نفسية وعقلية وروحية جد معقدة ومن غير المجدي فصلها عن بعضها، تتجاوز حياة الفرد وتجربته الصغيرة إلى ما هو أعمق وأبعد، إلى حياة الإنسان عبر كل العصور والأزمنة والأمكنة، في اتصال خارق بالمغاور والتشعبات والآفاق الكامنة في أعماق كل فرد، عبر مسيرة تطوره الطويلة، التي لا تبدأ بولادته، ولا تنتهي بموته، إنما هذه كلها مجرد بصمات مميزة للفرد قد نجدها في عمل فني ظاهرة أو باطنة، بينما ما يجب أن نبحث عنه أكثر، في عمل فني، هو بصمات الكون.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.