النكبة الثانية... والانتفاضة الثالثة!
على مدار 75 عاماً، بقيت آثار السردية الإسرائيلية عن أنّ الفلسطينيين باعوا أرضهم تلقى رواجاً لدى بعض العرب، رغم مرور تلك الأعوام، وما رأوا فيها من مشاهد وشواهد، متسائلين: كيف حدثت النكبة الأولى بخروج سكان 600 قرية فلسطينية من أراضيهم وبيوتهم بهذه البساطة؟ ألم يقاوموا؟ ألم يبيعوا الأرض ويقبضوا ثمنها؟
في هذه الأيام الجارية، وفّر الاحتلال علينا عناء الشرح، والبحث في صور الأبيض والأسود التاريخية، للقول كيف خرج الفلسطينيون من ديارهم (والأحرى أنهم أُخرجوا)، فما حدث في "حوارة"، ليلة الإثنين، كان مشهداً متأخراً من عام 1948، ملتقطًا في زمن النكبة كأنه تقرّر نشره الآن في اللحظة الراهنة، حين رأينا المستوطنين يحرقون بلداً في ليلة، ويشعلون مئات البيوت والممتلكات والسيارات في بضع ساعات، وكيف قَتلوا وجرحوا وكادوا يبيدون قرية كاملة، بأسلحتهم، وبنزينهم، وتحت حماية جيشهم؛ فحين يسألنا أحدهم مجدّداً كيف حدثت النكبة الأولى؟ سنقول إنه مثل ما يحدث في نابلس وحوارة وأريحا هذه الأيام، وما يريدونه في الأغوار، وضمّ المناطق الجديدة واستمرار سياسة الاستيطان، في النكبة الثانية، في 2023.
لكن، ليس مصطلح "النكبة" التاريخي وحده هو الحاضر، وإنما حضر ثاني أشهر مصطلح في تاريخ فلسطين وهو "الانتفاضة" في الوقت ذاته، فمن لم يرَ الانتفاضتين الأولى والثانية، فإنه على موعد مع انتفاضة ثالثة لا تشبه سابقتيها، وإنما هي امتداد لهما، طال تكهّن السياسيين بها، لكن الأوضاع على الأرض تقول إنها باتت على بُعد أسابيع، أو أشهر على الأكثر!
في 1987، قامت الانتفاضة الأولى بعد دهس مستوطن إسرائيلي عمالاً فلسطينيين عائدين من عملهم عند حاجز "إريز" على مشارف غزة، في زمن الأحمق إسحاق شامير. وفي عام 2000، قامت الانتفاضة الثانية مع اقتحام أرئيل شارون المسجد الأقصى، وبعدها بيومين استشهد محمد الدرة في غزة، في زمن المتهوّر شارون. ولسنا بعيدين عن انتفاضة ثالثة في عهد آخر، اجتمعت فيه الحماقة والتهور معاً، والجبن والبجاحة معاً، كأنه خنزير بريّ شرس ضلّ طريقه من الغابة إلى الكنيست، حتى صار ضالّة نتنياهو، وصار وزير الأمن القومي لـ"إسرائيل".
حين يسألنا أحدهم مجدّداً كيف حدثت النكبة الأولى، سنقول إنه مثل ما يحدث في نابلس وحوارة وأريحا هذه الأيام
طالما اقترنت الانتفاضة بوجود انتشاءٍ إسرائيليّ، وشعور داخليٍّ لديهم بقرب الحسم، وتولي رجلٍ مجنونٍ دفّة الحكومة أو الأمن، وممارسات أجرأ من أن تمرّ على الفلسطينيين من دون رد، ومرحلة جديدة في تعامل المقاومة وعملياتها، وتصاعد في الحسّ الفدائيّ الفلسطيني، وترجمة ذلك على الأرض، من خلال عمليات منظمة، أو غارات "ذئاب منفردة"؛ وها هي اليوم كلّها مجتمعة في زمان واحد، بالإضافة إلى نكبة مصغّرة تضيف إلى الأسباب رشة ملح وزعتر، وإن كان في أوج الانتفاضة الثانية وصل عدد القتلى الإسرائيليين في العمليات الفلسطينية إلى نحو 20 قتيلاً شهريّاً، فإننا بتنا قريبين من هذا الرقم من دون انتفاضة، كأنه تقديم لحدث كبير على الأبواب.
لستُ محللاً سياسيّاً متشائماً، ولا درويشاً متفائلاً بالتنجيم، وإنما رجل عاديٌّ يحب هذه القضية بتفاصيلها الحلوة والحارة، ويستبصر من مشاهدته ما يراه الجميع رأي العين، ويصوغه في أسطر كهذه، يقول بها إننا على وشك تاريخ جديد.
استمرت الانتفاضة الأولى خمس سنوات، وتمخض عنها نشأة أقوى فصائل المقاومة الفلسطينية، واستمرت الانتفاضة الثانية خمس سنوات حتى تمخض عنها صنع أول صاروخ فلسطيني، وتسجيل تاريخ معركة جنين، وتطور نوعي رهيب في العمليات، لكن اليوم حين تبدأ انتفاضة ثالثة، فنقطة بدايتك أنّ لديك ترسانة عسكرية في غزة تصل قلب تل أبيب، وفصائل بجهود شبابية شعبية تقوم بمائة معركة من جنين، ولديك جيل من الفتية لا يقنع بالحجارة، وإنما يستل السكاكين، ويقود المركبات، ويعتمر البنادق، فإلى أين ستنتهي انتفاضة كهذه إذا استمرت خمسة أشهر لا خمس سنوات؟
على بُعد أيام قلائل من شهر رمضان المبارك، موسم الثورات في القدس، والتضامن في قلوب المسلمين، والعزة في أجواف العرب، والحرارة في إنسانية العالمين، والحسم في أيادي المقاومين، في مواجهة عدو مختلّ، يعتقد أنه قاب قوسين أو أدنى من تضييق الخناق على المصلّين في شهر العبادة المنتظر، لكنه من حيث لا يدري، على موعدٍ ما، مع درسٍ لن تنساه أمته المزعومة إلى الأبد، وأحسب أن مقالي ليس شعبويّاً، وإنما منطقيٌّ ليس ذنبه أن الواقع هكذا، وأكثر.