المهم بالنسبة لنا أن نرقص

09 نوفمبر 2019
+ الخط -
خلال سهرة الإمتاع والمؤانسة التي عُقِدَتْ في منزلي بحي (Sefaköy) الإسطنبولي تشعبَ الحديث عن عمليات النهب التي كانت (وما تزال) سائدة في سورية خلال جو الفساد الذي خلقه نظام حافيييظ الأسد، ومشى عليه وعززه وريثُه بشار. 

مناسبة هذا الحديث أن ضيفنا وابن بلدنا "سعيد" القادم من برلين، عندما عَرَّفْنَاهُ على الحاضرين ووصلنا إلى "أبو الجود" وقلنا: صديقنا عبد الجواد محمود المحمد من القرية الفلانية سأله عن شقيقه "عبد السلام محمود المحمد" الذي كان يعمل بصفة جابٍ في مجلس مدينة إدلب، فقال أبو الجود: 

- هوي شقيقي، الله يرحمه، (أعطوكْ) عُمْرُهْ.

دهش سعيد وقال: كيف أعطوني عمره؟ يعني مات؟

قال أبو الجود: نعم. هوي لو مات بشكل طبيعي كنت بقلك (عَطَاك عمره)، لاكن أنا تقصدت أقول لك (أعطوك عمره)، لإنُّه سَبَبْ وفاتُه، بحسبْ التقريرْ الطبي اللي أعطونا إياه بالمستشفى هوي: إلتهابْ لوزتين. أنت يا أستاذ سعيد في حياتك سمعت بإنسان عمره 55 سنة بيموتْ بالتهابْ اللوزتين؟!

قال أبو جهاد: في سورية إذا الواحدْ بياخدُه برد وبيعطُسْ ممكن يموت! 

قلت: يا ريت تعطوني دور بالحكي، لأني يوم مات عبد السلام أنا رحت لعند أبو الجود حتى أعزيه، ويومْها كنا في بدايات الشتي، وفي مطرْ خفيف ناعم عم ينزل.. وتمشينا أنا وأبو الجود في الزقاق اللي بيوصل لبيته، وصرنا نسند إيدينا عالحيطان حتى ما نزحط ونوقع ع الأرض.. وبوقتها أبو الجود قال لي جملة ضحكتني كتير.. قال لي: زقاقات ضيعتنا متل زقاقاتْ "القِلّة".

قال أبو ماهر: عفواً، أنا شايف هاي العبارة ما بتضحِّكْ.

قلت: صح. أنا ضحكت لأني بعرف "القلة". هاي حارة بحلب مجاورة لحارة بحسيتا، وحاراتها وشوارعها بالفعل كانت سيئة وفي منها ترابية ولما بينزل مطر بتصير زلقة وبتزحِّطْ. 

قال أبو الجود: بعدما مات أخوي عبد السلام بشي سنتين، فتحوا عندنا في الضيعة بلدية، وقالوا لنا إنه يا أهل الضيعة انبسطوا وافرحوا، والله لتصير شوارع ضيعتكم متل شوارع باريس.. ونحن متلما بتعرفوا عقلنا زغير، منشان هيك صدقنا، وطلعنا على بيدر الضيعة وجبنا طَبَّالْ وزَمَّارْ وبلشنا ندبُكْ.. يومها صارت معنا نهفة عن جد بتضحك. كان عندنا واحد بيقولولُه "أبو عبدو" مشهور بمحبته للأعراس والأفراح، وهوي شاب لايق، ومتعلم الرقص العربي على أصوله، ومن كتر ما بيحب الرقص كان أحياناً يركب على الموتوسيكل في الليل ويعمل جولة ع القرى اللي حوالينا، ووين ما لقى عرس ينزل، ويصف الموتوسيكل، ويقعد، ولما يجوا أهل العرس ويطلبوا منه يرقص يقوم، ويبلش يرقص.. وبيبقى بيرقص لوقت ما ينصرفوا الناس، ويجوا المكنسين حتى يكنسوا الوسخ اللي خلفوه الحاضرين.. المهم إنه "أبو عبدو" لما سمع صوت الطبل والزمر فكر إنه في عرسْ بالضيعة، واستغربْ لأنه ما حدا وجه لُه دعوة.. بس هاي بالنسبة إله مو مشكلة، لبس تياب الرقص العربي، ولحقْ الصوتْ حتى وصلْ عالبيدرْ، ومن دون ما حدا يعزمه أو يقله نزل ع الميدان، وبلش يرقص، ولما شافه الطبال والزمار قربوا عليه، وصاروا يتناغموا معه على إيقاع وقوع قدمه ع الأرض، وهوي لما شافني عم إرقص تحركْ باتجاهي وصار يرقص مقابيلي، وهيك صارتْ رقصة ثنائية رهيبة، واستطعنا أنا وهوي إني نلفت أنظار الموجودين، وكان في شوية نسوان قاعداتْ على سطح البيت القريب ع البيدر، لما شافونا عم نرقصْ بشكل ممتاز صاروا يزلغطوا، والزلاغيط تبعهم خلتنا نحن نتفنن في الرقص أكتر..

قال كمال: أنا بشهد إنه ما في أجمل من وصف هالمشهدْ. يا أخي أبو الجود معلم.

قال أبو جهاد: بدي أقلك كلام يا أستاذ كمال وخايف إنك تزعل مني. يا خيو طالما إنك بتحب أبو الجود وحكاياته لهالدرجة ليش ما بتتبناه، وبتسكنُه في بيت متل الناس، وبتصرف عليه من جيبك؟

قال كمال لـ أبو جهاد: أبو الجود أخوي، ويا ريت ما حدا يتدخل بيناتنا. وقال لـ أبو الجود: أي وأشو صار خلال افتتاح البلدية؟

قال أبو الجود: صاروا شغلتين كل وحدة منهُنْ أحلى من التانية. أول شغلة إنه بعد شي ساعة ونص رَقْصْ أنا تعبت، وقعدت على الكرسي لإرتاح، وبوقتها توقف "أبو عبدو" عن الرقص وأجا وقعد على الكرسي اللي جنبي، ووشوشني وسألني: عرس مين هاد؟!

ضحك الحاضرون وقال أبو محمد: مفكر حفلة البلدية عرس؟

قال أبو الجود: أي نعم. لأنه بوقتها ما كان في أي شي بيدل على أنه هاد افتتاح بلدية، السبب إنه صندوق البلدية ما كان فيه أي ميزانية، ولو قلت لهم: اشتروا علم أو صورة أو لافتة بيقولوا لك: والله ما معنا. وعلى كل حال مو هادا هوي الشي اللي بيضحك. اللي بيضحك إنه وقت سألني (عرس مين هاد؟) أنا كنت ناسي إنه هادا افتتاح بلدية وتفاجأتْ بسؤاله وقلت له: آ؟ والله ما بعرف. أكيد عرس واحد من هالشباب. وبقينا على هالحالة لوقت ما طلع شاب عمره شي تلاتين سنة على كرسي، والواقفين صاروا يصفقوا له وقال: أيها الإخوة المواطنون، يا أشبال الأسد يا أحفاد خالد إبن الوليد.. هذا يوم تاريخي.. ووقتها همست لـ أبو عبدو وقلت له: هادا مو عرس. اليوم عم يفتتحوا البلدية. فقال لي: ينباعوا في العَزَا.. المهم بالنسبة إلنا إني نرقصْ.       

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...