المكدوس وقصائد الحب

11 أكتوبر 2022
+ الخط -

لطالما تماهت وصفات الطعام مع الحب، وأُلفت كتب وكُتبت مقالات ودراسات تشرح ذلك وتؤكده، ولطالما ربطت مقاربات ما بين الطعام والحب والجنس، واكتسبت بعض الوصفات صفات عالمية، لأنها أغدقت على متذوقيها حبا غير منتظر.

وفي عشق البلاد وتماهيها مع أطعمته ونكهاتها الخاصة، يمكن اختزال المكدوس بعبارة الحب السوري. والحب السوري المختزل في حبات المكدوس، حب خالص، امتهنت السوريات صنعه وتقديمه، حتى بات فعلا موصوفا بالحذاقة والجمال.

في كل خريف، وتحديدا بعد تاريخ الرابع عشر من شهر سبتمبر/ أيلول من كل عام، وهو الموعد شبه الرسمي لانطلاق موسم تصنيع المكدوس حيث تكتمل جاهزية ثمار الباذنجان لتصبح مكدوسا ترابطا مع حلول تاريخ عيد الصليب عند الطوائف المسيحية والتزاما بعبارة: (حتى يصلّب الباذنجان)، تقرر غالبية النساء التقليل من كمية المكدوس المحضرة لمونة الشتاء القادم لارتفاع كلفتها، والتعب الكبير الذي يرافق إعداد هذه المادة، لكن لم تتجرأ امرأة حتى الآن ولو من منظور عاطفي بحت على إلغاء مونة المكدوس ولو بألف طريقة احتيالية.

لجأت دلال إلى احتيال خاص بها، يتناسب مع عجزها عن شراء الجوز لحشو الباذنجان لارتفاع ثمنه، ومراعاة لمشاعر زوجها المصاب بتراجع حاد في البصر نتيجة إصابته بمرض السكري، والذي يرفض تناول المكدوس من دون جوز، تستدعي الفكرة حزنه ودموعا جافة في عينيه، فقد تراجع وضعه المادي والصحي أيضا، وكانت دلال مصرة على إيجاد حل يهون الشعور بالعجز والخيبة على زوجها.

اشترت دلال أوقية واحدة من الجوز، فرمته قطعا ناعمة جدا، خصصت عبوتين خاصتين لزوجها، وضعت فيهما مكدوساً بجوز، وألزمته بعدم محاولة الوصول إلى المكدوس وحده كي لا يكتشف العبوات الخالية من الجوز، تذرعت بنظره الضعيف، وقالت له: أنا فقط من يسكب لك المكدوس مخافة كسر العبوات أو دلق الزيت، كتبت دلال قصيدتها بعناية ووفاء ينضحان بالحب.

دخل الرجال على خط إعداده، لكن الرجال يعجزون عن ترتيب حبات الباذنجان تمهيدا لكبسها وتجفيفها

تراجعت الكميات المحضرة لمؤنة الشتاء، بسبب سفر الأبناء، باتت المطابخ باهتة، وشبه فارغة. اعتادت حنان على صنع مائة كيلو كل عام، حصة لوالديها الهرمين، وحصة لوالدة زوجها، والحصة الأكبر لولديه، خاصة ابنها الأصغر الذي يدرس في مدينة أخرى، كان يستحوذ على غالبية كميات المكدوس، خاصة أنه دأب على دعوة زملاء الدراسة والأصدقاء لأكل المكدوس حتى ذاع صيت مكدوسات حنان وباتت علامة فارقة ملازمة لاسمها، وبعد وفاة الأهل وسفر الولدين تقلصت الكمية كثيرا، لكنها كانت مصرة على إعداد حصة كبيرة لابنها المسافر.

رجت الكثير من المسافرين من دون جدوى، تعثر تأمين فيزا زيارة لولديها لتراهما بعد طول غياب، ولتصحب معها مكدوساتها المشتهاة، وصل بها الأمر إلى التفكير بالوقوف أمام مقر البعثة الأممية لتشكو لهم همها وقهرها وعجزها وشوق ابنها العارم لأكل المكدوس، وتعثر ذلك أيضا، فقد منحوا المكدوس أيضا وبقرار أممي لقب لاجئ، وبات من الضروري منعه من السفر!

وبقي ابنها بلا مكدوس ولم يعزِّ قلب حنان ولا قلب ابنها الهدايا التي وصلت لابنها من الأقارب والأصدقاء في أوروبا، لأن ابنها كان يقول لها إثر كل عملية تذوق للمكدوس الغريب: (ما فيهن ريحتك، مو نفس الطعمة أبدا).

هو الحب قصيدة متبادلة الكلمات والأشجان، ما بين ناظم وراو ومستمع، ما بين قلب أم وقلب ابن، والمرسال حبات من المكدوس، عبرت ألف حاجز وألف درب ومليون رجاء.

رغم التعب، يظلل الحب أجواء وطقوس صناعة المكدوس، دخل الرجال على خط إعداده، لكن الرجال يعجزون عن ترتيب حبات الباذنجان تمهيدا لكبسها وتجفيفها، تضع النساء الراس بمحاذاة الرأس، وتعكس العملية في الصف المقابل، تلتقي الرؤوس وتلتحم ببعضها بأيد تعرف معنى وتأثير تلامس الرأس مع الرأس، واتكاء الرأس على الرأس، هنا فقط، وبعد تعب كبير، تمنح تلك العملية النساء شعورا مليئا بالأمان والثقة، ستجف الرؤوس! ستكتمل عملية التحضير على أسلم وجه، ستصل رسائل الحب بقوة وعمق.

تقول الجدة أميرة بلسان الخبيرة: قد يشارك الرجال بعملية كبس الباذنجان لأنه يحتاج وزنا ثقيلا، أو بتحنيكه وهي عملية وضع الملح في قلبه ليجف فهي عملية تحتاج قوة ولا تحتاج لأناقة توازي تكحيل العين، لكن الحشو هو مهمة النساء فقط.

تواصل الجدة كلامها وكأنها ترسم لوحة فنية لم يرسمها فنان من قبل: أصابع النساء اللحمية الغضة مبتلة بالفلفل الأحمر النضر وبقطع الجوز الأسمر وذرات الثوم البيضاء، والزيت الذي تحول لونه إلى اللون الأحمر يسيل حتى الأكواع، فمن يرى ولا يسعده المشهد؟ ومن يرى ولا يتمنى أن يكون أول المتذوقين؟ مزيج ساحر من الألوان تروّضه أنامل تتحايل على توزيع كمية الحشوة لتكفي كل حبات الباذنجان، لكنها تترك رائحتها هناك، مقاس أصابعها، وكل الأمنيات الحنونة بأن تكون رهيفة وعاطفية وشهية على قلوب الأحبة.

وإذا سألونا ما هو تعريف المكدوس إذن؟.. هو قصيدة حب سورية.

سلوى زكزك/ فيسبوك
سلوى زكزك
مدوّنة سورية تقيم في دمشق. تكتب مقالات وتحقيقات صحافية. وصدرت لها ثلاث مجموعات قصصية. تكتب في مواضيع النسوية والجندر وتهتم بقضايا العنف الاجتماعي.