الله يبعد عنا أولاد الحرام!

30 ديسمبر 2016
+ الخط -


حدثني أبو عبد القادر، قال:

كنت في أيام يفاعتي أجلس في دكان أبي لبيع الخضار والفواكه الذي يتوسط السوق الجواني في بلدتنا، فأرى، خلال زمن قصير، عدداً كبيراً من الناس، كل واحد له موديل، وكل واحد له نغمة تختلف عن نغمة الآخر!

وكان من بين هؤلاء الناس الرائحين والغادين شاب يكبرني بأربع سنوات، لا أعرف ما هو اسمه الأصلي، ولكن أهل البلدة لقبوه "أبا النخلة"، وهو لقب ذو منشأ مُعَقَّـد، فهم- عادةً- يسمون الأشياء بعكس مدلولاتها، فالنخلة يُضْرَبُ بها المثلُ للطول، وهو قصير القامة، لذلك اختاروا له هذا اللقب!

وأبو النخلة، رغم كل هذا، شاب طيب، مسالم، يريد سلته من دون عنب، وميال إلى المزاح والضحك،.. ولكننا فوجئنا به ذات يوم يعبر السوق الجواني بوجه مكفهر- أو كما يقول أهل البلد- وجه يقطع الرزق! كان يرتدي بنطالاً له ثلاث كسرات في وسطه، وقميصاً فضفاضاً حشره داخل البنطال فانتفخ وكأنه يخبئ في داخله بطيخة أو كرة يد، ويحمل على كتفه بارودة طويلة، أغلب الظن أنه تسلمها من إدارة الدفاع المدني التي اعتادت أن تسلح بعض الأشخاص في أيام الحروب، بوصفهم خط دفاع رابعاً أو خامساً،.. وتُدَرِّبُ بعض البنات على أعمال الإسعاف والتمريض كنوع من المؤازرة للمستشفيات والمستوصفات..

ويبدو أن أبا النخلة كان على علم مسبق بأمر تسلمه للبندقية، فذهب من توه إلى مصلح الأحذية وطلب منه أن يركب له في أسفل "البوط" الذي يلبسه قطعاً من الحديد المرقوق التي كانت الواحدة منها تسمى "مَيَّالة".. فأصبح حينما يمشي على البلاط القديم في السوق الجواني يُصدر صوتاً رهيباً: طق، طق، طق.. والناس ينظرون إلى خلقته المكفهرة ويسمعون إيقاع ضرب ميالاته بالأرض فيزوَرّون عنه بوجوههم ويقولون:

- يا لطيف! الله يبعد عنا أولاد الحرام!

وفي يوم من الأيام ذهبت مع أحد أصدقائي لمراجعة إحدى الجهات الرسمية لمتابعة معاملة إدارية تخصني، ولما دخلنا مكتب سكرتيرة المدير المسؤول فوجئت بأبي النخلة جالساً هناك، فسلمت عليه مستبشراً أن تنقضي حاجتي بوساطته. عرفته على مبتغاي، ولكنه رد علي بفتور واستعلاء، وقال لي، متحدثاً من بين شفتيه، إن حاجتي ستكون مقضية بشرط أن تكون قانونية! وأضاف:

- الله يخليك يا أبو الخير، إذا كان فيها مشاكل أو مخالفات لا تجعلني أخجل مع الرفيق!

فحلفت له إنها قانونية مئة بالمئة.

قال لي: إذن دعنا ننتظر.

جلست أنا وصديقي على كراسي الانتظار الوثيرة بينما شرع هو يذرع المكان جيئة وذهاباً شابكاً يديه خلف ظهره بطريقة توحي بالأهمية.

وفجأة، ومن دون أي سابق إنذار، هرع أبو النخلة إلى قماشة قطنية برتقالية كانت مرمية في زاوية من مكتب السكرتيرة، حملها ودخل إلى مكتب المدير بسرعة البرق، مسح الطاولة والكرسي بحركات مدربة، وما إن انتهى من ذلك حتى دخل الرفيق المدير الذي لم يسلم عليه، بل إنه مد يده وأعطاه مفاتيح سيارته، فانجرد أبو النخلة خارجاً من المكان، ومن فرط سرعته اصطدم بي وبصديقي، ووقتها تقدمنا من المدير وقدمنا له المعاملة، فتحها وتصفحها وقال بإيجاز:

- سجلوها في الديوان وسأنظر بها.

نفذنا ما وجهنا به المدير، وخرجنا من المبنى لنرى أبا النخلة وقد شمر عن ساقيه إلى ما فوق الركبتين وشرع يغسل سيارة الرفيق بإخلاص واستبسال، ومن دون أن يلتفت نحونا قال:

- بشرني يا أبا الخير. إن شاء الله معاملتك تيسرت؟

فجأة خطرت لي فكرة، فوقفت ووضعت يدي على كتفه، وقلت:

- مصير معاملتي متعلق بك يا أخي أبا النخلة. فقد حلف الرفيق بالطلاق بالثلاثة إذا لم تنظف سيارته وتجعلها تلمع مثل جنح الدبور فلن يمشيها على الإطلاق!

وتركته ومشيت وأنا أقول لصديقي ما سمعته من الناس حينما شاهدوا أبا النخلة مدججاً بالسلاح والميالات لأول مرة:

- يا لطيف! الله يبعد عنا أولاد الحرام!

 

 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...