اللغة وكيفية اشتغالها خادمة للاستعمار
في جامعة سيمون فريزر الكندية، وفي كورس "الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي"، سنة رابعة، قسم التاريخ؛ سأل أحد الطلبة بروفيسور المادة: "بما أن المحاضرة التي أنهيتها قبل قليل كانت حول خداع اللغة وكيفية تصويرها لهذا الصراع، فهل تعتقد أنّ عنوان المادة التي تدرّسها "الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي" هو عنوان عادل"؟ وتابع الطالب: "مبعث سؤالي هو أنّ هناك طلبة حاضرين الآن بيننا كانوا قد أوضحوا، ومنذ المحاضرة الأولى من هذا الكورس، وفي معرض إجاباتهم عن سؤالك (لماذا اخترتم هذه المادة؟)، قالوا إنّهم هنا من أجل التعرّف أكثر على هذا الصراع، لذلك الكثير منهم اعتقدوا أنّ هناك طرفين متعادلين في كلّ مصادر القوة، وهذا غير دقيق".
جاءت إجابة البروفيسور قاطعة (Absolutely not)، وأضاف: "الأمر لا يعود لي، وليس لي ذنب في وضع ذلك العنوان"؛ ثم استطرد موجّهاً سؤاله إلى الطالب ذاته: "ما العنوان الذي تقترحه"؟ أجاب الطالب بهدوء غير مكترث لزميله الإسرائيلي الذي كان يشتاط غضباً: "ببساطة إسرائيل آخر بقايا الفترة الكولونيالية، ويجب أن تُسمّى الأشياء بأسمائها: الاحتلال الإسرائيلي. إنّ القضية قضية احتلال إسرائيلي من جهة، ونضال فلسطيني من أجل التحرر من جهة ثانية، وليس صراعاً بين طرفين. فمفهوم الصراع يقتضي أن يكون الطرفان متكافئين، لذلك فإنّ نقد وتفكيك اللغة التي تهيمن عليها وسائل الإعلام ولوبيات الضغط الممولة أميركياً وإسرائيلياً أمر مهم جداً هنا لتحرير عقول الناس البسطاء من ذلك التشويه والتضليل".
ردّ البروفيسور: "هناك الكثير من النقاشات في الجامعة حول هذا الموضوع في محاولة لتغيير الاسم، إنّما أيضاً يعتمد هذا عليكم أنتم الطلبة. إذ إن هناك استبيانات يجب أن تشاركوا فيها". ثم استعرض بعض الأسباب التي تفرض انحيازات كهذه. فبحسب معرفته؛ اللوبي اليهودي ضعيف هنا في فانكوفر مقارنه بقوته في مدن مثل تورنتو. كما أكد أنّ هناك تحوّلات كبيرة في المجال الأكاديمي في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وخاصة في الولايات المتحدة.
بعد 7 أكتوبر زادت حدة التضليل الإعلامي اللغوي من قبل الإعلام الأميركي في محاولاته الحثيثة والممنهجة لطمس حقيقة الاحتلال الإسرائيلي
هنا، كان صبر الطالب الإسرائيلي قد نفد تماماً، وبحركة مسرحية انتزع بقوة قلادته المعدنية، الملتفة حول عنقه، والمصمّمة على شكل ميدالية تذكارية، وبدأ يستعرضها أمامنا نحن الطلبة: "انظروا. إنها من بقايا صواريخ حماس التي تتهاطل على أهلي في إسرائيل". كان الزبد يتناثر من فمه، وهو يتفوّه بكلمات شوارعية استدعت من البروفيسور تذكيره بوجوب استخدام مفردات أكاديمية تحترم حرم الجامعة.
كان الرد بليغاً على ذاك الطالب الأهوج، والذي جاء على لسان زميل آخر مقتبساً أمثلة من بحث البروفيسورة الأميركية جولي بيتيت (مسائل اللغة: الحديث عن فلسطين/ Language Matters: Talking about Palestine). وبحثها هذا يستعرض دور اللغة وكيفية اشتغالها خادمة للاستعمار، وكيف (عبرها) يتشكل الرأي العام الأميركي. ويستشهد البحث بكيفية تضليل "سي أن أن" و"فوكس نيوز" للرأي العام الأميركي. فعلى سبيل المثال تستخدم هاتان القناتان الشهيرتان مفردة "تمطر" و"منهمرة" لوصف صواريخ حماس التي ترميها على إسرائيل، رغم أنّ تلك الصواريخ (حسب الكاتبة)، مفعولها بالكاد يقتل شخصاً أو تُسبّب ضرراً بسيطاً في بناء ما، في حين أنّ الاعلام الأميركي يغضّ النظر عن "المطر الحقيقي" للترسانة العسكرية الإسرائيلية.
كان هذا النقاش قد حدث قبل 7 أكتوبر. لكن بعد 7 أكتوبر زادت حدة التضليل الإعلامي اللغوي من قبل الإعلام الأميركي في محاولاته الحثيثة والممنهجة لطمس حقيقة الاحتلال الإسرائيلي، وذلك من خلال تعميمه الصور النمطية حول الشعب الفلسطيني، واستخدامه اللغة المهينة والعبارات التحريضية. فهو ما انفك يستخدم المفردات والمصطلحات في غير مكانها الصحيح ويستبدلها، فيستخدم "مستوطنون" بدلاً من "مستعمرون"؛ "السياج الأمني" بدلاً من "جدار الفصل العنصري"؛ "إرهابيون" بدلاً من "فدائيون".. إلخ.
الإعلام الغربي في ما يخص القضية الفلسطينية لا يختلف عن صحافة الأنظمة الشمولية في فبركة القصص والابتعاد عن الموضوعية
لقد وصل التضليل الإعلامي، الأميركي خاصة، والغربي عامة، بعد 7 أكتوبر إلى موضع سقطت عنده كلّ مهنيته وادّعاءاته حول حرية الصحافة وحقوق الإنسان، وبات هذا الإعلام لا يختلف عن صحافة الأنظمة الشمولية في فبركة القصص والابتعاد عن الموضوعية.
موقع "The Intercept" المتخصّص كان قد أجرى تحليلاً حول العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، وذلك على عينةٍ مكوّنة أكثر من 1100 مقال، نشرت في كلّ من "نيويورك تايمز"، "واشنطن بوست" و"لوس أنجليس تايمز". انحصر التحليل حول توظيف بعض المصطلحات والتعابير الرئيسة وسياق استخدامها، فأظهر انحيازاً كبيراً من جانب الصحف الثلاث (التي تشكل الرأي العام الأميركي) لمصلحة إسرائيل.
فعلى سبيل المثال، خُصص استخدام المصطلحات العاطفية لقتل المدنيين مثل "مذبحة" و"مجزرة" و"مروّعة"، تخصيصاً شبه حصري للإسرائيليين الذين قُتلوا على أيدي المقاومين الفلسطينيين، وليس العكس.
كذلك تشير "لوس أنجليس تايمز" إلى الشباب الإسرائيليين على أنهم أطفال، بينما يُشار إلى الأطفال الفلسطينيين على أنهم "تحت سن 18 عاماً". والصحيفة في ذلك تتبنى الرواية الإسرائيلية التي لا تعترف بمرحلة المراهقة التي يمرّ بها الشباب الفلسطينيون، وذلك كي تبرّر سجنهم واعتقالهم. فالإنسان الفلسطيني وفق منطق الاحتلال ينتقل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة مباشرة!
الأمثلة كثيرة في هذا المجال، ولا تتسع المدونة لذكرها كلها، لكن تزول حالة الاستغراب من ذلك عندما يصرّح الرئيس الأميركي، جو بايدن، في بيان أمام جمهرة من الصحافيين إنّ "اتفاقاً أُبرم لإطلاق سراح 50 امرأة وطفلاً تحتجزهم حماس رهائن في غزّة، مقابل 150 سجيناً فلسطينياً تحتجزهم إسرائيل"! هذا يعطي فكرة كيف أنّ خداع اللغة الذي تمارسه وسائل الاعلام الأميركية ما هو إلا سياسة أميركية ممنهجة هدفها "تطبيع" جرائم الاحتلال الإسرائيلي، وقلب كلّ الحقائق والمفاهيم لتغدو مع الزمن من عاديّات الحياة.
في الختام، لا يمكن الاستهانة بدور اللغة، ولا بأهمية هذا الدور في كيفية تشكيله الرأي العام، سواء في أميركا وأوروبا، أو حتى داخل محيطنا العربي من قنوات تلفزيونية عربية بدأت ترسم لغة تتماشى مع مرحلة ما يسمّى التطبيع مع إسرائيل، حيث ينهال اللوم والتقريع على الضحية، فيما يُنسى الفاعل والمجرم الحقيقي، وتُسلّط كلّ الأضواء على النتيجة، فيما يتم إهمال السبب عمداً، والسبب هو احتلال استيطاني شرس له سياق تاريخي طويل، وليس 7 أكتوبر إلا حلقة واحدة من حلقات طويلة بدأت بتطهير عرقي عام 1948، ومن ثم نظام فصل عنصري لا يزال يسوم الفلسطينيين كلّ أنواع القهر والعذاب. والآن في غزّة، يدخل ذلك الاحتلال الإسرائيلي مرحلته، ربّما الأقبح والأكثر دموية؛ حيث يريد إزالة غزة كلّها من الوجود عبر اقتلاع وتدمير كلّ معالمها وثقافتها وتاريخها.
يريدون (نتنياهو وحكومته الداعشية) تنفيذ خرائطهم التوراتية، حيث لا وجود لفلسطين وفلسطينيين فيها. لكن، وحسب عالم الأنثروبولوجيا الإسرائيلي المدافع عن القضية الفلسطينية، جيف هالبر: "الجرافات الإسرائيلية ذاتها التي طحنت بيوت الفلسطينيين؛ سحقت معها فكرة "إسرائيل"!