اللغة... ميدان حرب
يصف ضيف أحد القنوات الإخبارية ما يحدث في غزة على أنه "تطهير عرقي"، فلا نعير بالًا لهذا التعبير لأننا اعتدنا سماعه، بل ربما استخدمناه نحن وكأنه التعبير المناسب لوصف حالات اعتداء قوة عسكريّة جبّارة على شعب أعزل ضعيف.
هذا واحدٌ من التعابير التي باتت تتكرّر على مسامعنا منذ بدء عملية "طوفان الأقصى"، نسمعه في نشرات الأخبار، ويتردد على ألسنة المحللين السياسيين وضيوف البرامج السياسية، ونقرؤه في الصحافة المكتوبة ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي. يعبّر هذا المصطلح الملطّف جدًا عن كمّ هائل من الممارساتٍ الفظيعة التي لا تخطر على بال بشر، وصياغته لم تأت عبثًا، إنما هي سلاحٌ من أسلحة الهجوم التي تستخدم في الحروب. أيّ إنّ المصطلح بذاته أداة حربٍ في زمن تعددت فيه ميادين الحروب. فلم تعد تقتصر على الميدان العسكري للقوة والسلاح فحسب، بل تجاوزته لتشمل الميادين الاقتصادية، والثقافية، والإعلامية، والتربوية، واللغوية.
إنّ استخدام اللغة الملطفة للتعبير عن السلوكيات الإجرامية ما هي الا أسلوبٌ خبيثٌ لتغليف الحقيقة، ووسيلةٌ ماكرةٌ توحي بأن الواقع أقلّ فظاعةً مما هو عليه بالفعل. ففي كثيرٍ من الأحيان، تُصاغ التعابير بمسحةٍ تميل إلى الإيجابية، فيتحول من خلالها الهجوم الهمجي الشرس إلى "تطهيرٍ للعرق"، مصطلحٌ يفترض أن يشير إلى قتل الأبرياء العزل، وسفك دماء المدنيين، وتشويه حياة من بقى منهم عبر تجويعهم وقتل عائلاتهم وتدمير مأواهم وبتر أطرافهم ثم منعهم عن العلاج بتدمير مستشفياتهم واستهداف أطبائهم، ثمّ إهانتهم وإزالة صفات الإنسانية في الحديث عنهم.
باستخدام أساليب بسيطة، تستبدل الصورة الذهنية الحقيقية بصورة أكثر إيجابية وإنسانية. فعندما يعتاد المشاهد سماع مصطلح "التطهير العرقي" في المقابلات التلفزيونية والإذاعية وفي التحاليل السياسية المسموعة والمقروءة، تتكون لديه صورةٌ للمكان المراد تطهيره على أنه أرضٌ مدنّسةٌ بسبب عرق ما، ويتحول المعتدي إلى بطلٍ لا يملك إلا أن يشنّ حربًا لتطهره من دنس هذا العرق. وبذلك إيحاءٌ بأن المعتدي شريفٌ يقوم بعملٍ نبيلٍ يدافع به عن نفسه وأرضه، بل وقد يتمادى في نفاقه ليخبرنا أنه في حربه يجاهد ليعلي كلمة الحق، وهل هناك من هو بحاجة للتطهير أكثر ممن تملّكه الحقد فشرع في إبادة كل أشكال الحياة والعمران وقتل شعب بأكمله؟
إن الأكاديميين والإعلاميين وصنّاع المحتوى ملزمون أخلاقيًّا بتقديم النموذج الواضح الدقيق في استخدام اللغة لتعبر بدقة عن الواقع
وللتخفيف من الصورة الحقيقية لما يخلفه المعتدي الظالم من سحق للبنى التحتية والمعالم العمرانية والمؤسسات والبساتين والأشجار المعمّرة وجميع مصادر رزق الناس وتلويث مياههم وقتل الغفير منهم، يستخدم مؤيدو الغاصب عبارة "آثار جانبية"، وكأن كل هذا الدمار والخراب جاء عن طريق الخطأ ودون أي تعمد، بل هو ضريبةٌ صغيرةٌ يتكبدها "المُطهّر العرقيّ" جزاءً له على عمله التطهيريّ النبيل؛ وهذه هي الصورة المراد ترسيخها في ذهن المستمع والقارئ. يحجب هذا الاستخدام المعنى الصحيح للعمل الشنيع الذي قام به المعتدي، فيلطف حدّة الآثار المأساوية التي لحقت بالمواطنين وممتلكاتهم وأساسيات حياتهم، ويعمل على تقزيم المعاناة والعذاب الذي سببه لهم الاعتداء المسلح غير الإنساني.
وأما وصف العلاقة بين طرفين متخاصمين على أنها "صراع" دائرٌ بينهما، ففي ذلك إيحاءٌ بعدم تجانس الطرفين بسبب اختلاف أفكارهم، أو أهدافهم، أو اهتماماتهم. وفي حالات "الصراع" هذه، هناك قابلية للتدخل والإصلاح وبناء السلام بين المتصارعين، بينما الواقع هو أن المحتل، المعتدي، الغاصب، صاحب السلاح المدعوم من أقوى قوى العالم، قد سرق أرض شعب فحرق زيتونها واستباح بساتينها وفجّر بيوتها ودمر مؤسساتها، وسجن من سجن وقتل من قتل وبتر من أطرافهم ما استطاع وحرم من بقي حيًّا من أولادهم و آبائهم وأقرانهم، وانهال عليهم بالصدمة النفسية تلو الصدمة النفسية، فطبع في أذهانهم مشاهد وحشيّةً لن يشفوا منها ما داموا على قيد الحياة.. بالأحرى، فقد حاول منع بوارق الأمل كلها عنهم.
لا نستغرب هذه اللغة المليئة بالكذب والإيحاءات الصادرة عن غاصبٍ أو داعم له، فمن خان الحق والإنسانية والقيم، لن يرف له جفن إذا كذب، بل من المتوقع منه لا أن يفجُر عند المخاصمة فحسب، بل أن يكذب عندما يتحدث. وعليه، فإنّ الأكاديميين والإعلاميين وصنّاع المحتوى ملزمون أخلاقيًّا بتقديم النموذج الواضح الدقيق في استخدام اللغة لتعبر بدقة عن الواقع، وأن لا يشرعوا في تكرار ما يقدمه الآخرون من مصطلحات وتعابير دون فحصها والتأكد من دقتها لتعكس الحقيقة والواقع، وعلى الجمهور المتلقي أن لا يقبل إلا أن يقدم له ما هو صادق خال من الكذب والخداع.