انتفاضةُ الجامعات... الأسباب والدوافع

انتفاضةُ الجامعات... الأسباب والدوافع

02 مايو 2024
+ الخط -

فاجأنا طلابُ الجامعات الأميركية بتحرّكهم الداعم لغزّة، الرافض للمجازر بحقّها، والمُطالب بوقفِ دعمِ هذه الجامعات للمؤسّسات الإسرائيلية أو التعاون معها، بل يدعو الطلاب إلى تكوين شراكاتٍ مع الجامعات الفلسطينية، وتعزيز التواصل، وتنسيق العلاقات مع طلّابها.

نعجب لهذه التحرّكات في الجامعات الأميركية، ويزداد عجبُنا حين نراها في الجامعات النخبوية ومعاقل التميّز و"البريستيج"، أي أنّ طلابها يتمتّعون بعيشٍ رغيد، ولا تربطهم أيّة اهتمامات بشعبٍ أعزل يُعاني كلّ أشكالِ عذاباتِ الحياة. وهذا ما يثير تساؤلاتنا حول دوافع هؤلاء الطلاب في مناصرةِ أهدافٍ إنسانيةٍ لا تقع ضمن مصالحهم، بل تتعارض ومصالح آبائهم ومؤسّساتهم والطبقة السياسية التي ينتمون إليها. أضف إلى ذلك، أنّه لا رابط ثقافياً، ولا دينياً أو جغرافياً، مع الفلسطيني الذي يهتفون من أجل تحرّره ورفع الظلم عنه، وإعادة تموضعه على خريطة العالم بعدما تناسته أكثر الشعوب التصاقاً به. 

قد نفهم ما يحصل في هذه الجامعات إذا عُدنا لنظرية "إعادة الإنتاج الاجتماعي" لبيير بورديو الذي يرى أنّ النظام التعليمي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظام الاجتماعي، فالنظام التعليمي يعيدُ إنتاجَ طلّابه ليعودوا إلى الطبقاتِ الاجتماعية التي أتوا منها. هذا يعني أنّ المدرسة تُربّي أبناء الطبقات المسحوقة ليعودوا ويتموضعوا داخل طبقاتهم الاجتماعية، كما أنّها تربّي أبناء الطبقات البرجوازية ليعودوا ويتموضعوا فيها. ولمعرفة كيف يحصل ذلك، علينا أن نفهم دورة التعليم في هذه المؤسّسات، وكيف يتمّ بناء المعرفة وتشكيل الوعي، وذلك ما يمكن أن نرصده في ما يلي:

- إنّ تلك الجامعات المرموقة غير مُتاحة في معظمِ الأحيان لمن هم خارج نطاق الامتياز والثروة، وغالباً ما يكون طلّابها من أبناء المجموعات المهيمنة التي ورثت امتيازاتها عبر الأجيال. وبما أنّهم أفراد نخبويّون، فهم يتمتّعون بالمعرفةِ والمهاراتِ والتصرّفاتِ التي تمنحهم مزايا اجتماعية، وهم الذين درسوا في مؤسّساتٍ تستهدفُ تعزيز تفكيرهم النقدي، من خلال العديد من الأنشطة اللامنهجية التي تتضمّنها مناهج هذه المؤسّسات، فضلاً عمّا تُتيحه لهم من شبكاتٍ اجتماعيةٍ تُساهم في تعميقِ فهمهم لعالمهم وديناميكيته ومكانتهم فيه. 

النظام التعليمي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظامِ الاجتماعي، فالنظام التعليمي يعيدُ إنتاجَ طلّابِه ليعودوا إلى الطبقات الاجتماعية التي أتوا منها

- ويتمتع هؤلاء الطلبة بالتعلّم ضمن مناهج تعليمية مخصّصة لذوي الامتيازات، وهي مناهج تعمل على غرس قيمٍ مجتمعية وعاداتٍ ذهنية تركز على التفكير النقدي والإبداعي والريادي، وهذه كلّها ضرورية للتعامل مع أنظمة السلطة والامتيازات، وتأهيل الطلاب لمواقعهم المنتظرة بعد تخرّجهم من جامعاتهم، تلك المواقع التي رُسِمتْ لهم، فهم يرثونها عن آبائهم، وغالباً ما يكون لهم فيها أدوارٌ تسمح لهم بالتأثير على المستوى الكلّي للأنظمة والسياسات والتلاعب بها. بتعبيرٍ آخر، هم مشاريع القادة وصنّاع القرار والسياسات في المؤسسات، سواء أكانت هذه المؤسسات اجتماعية، أم سياسية، أم أكاديمية، أم عسكرية. 

- هذا النظام التعليمي الذي يتمتّع به طلّاب الجامعات المرموقة يشجّعهم على مُساءلةِ السلطات، وتحدّي النماذج الجاهزة في المؤسّسات، ويدفعهم إلى عدم قبول الأمور كما تُقدّم إليهم. في المقابل، هناك طلّاب الطبقة العاملة الذين لا يتمتّعون برأسمالٍ ثقافي يبنون عليه تجاربهم العلمية، وكثيراً ما نراهم يخضعون لتجارب تعليميةٍ تُنمّي فيهم الطاعة والقبول، أكثر مما تصنع فيهم النقد أو الاعتراض! ويعود ذلك، بشكلٍ كبير، إلى المؤسّسات التعليمية التي يتلقون فيها علومهم، وهي مؤسّسات لا تتوفّر فيها الموارد، ولا تفتح لهم من خلالها أبواب الفرص، حيث تطغى على طرق التدريس أساليب الحفظِ والتكرار، مع فرصٍ قليلة للإبداع والتحليل والنقد وحلّ المشكلات، والتي، إنْ وُجِدتْ، تكون محصورةً في نشاطاتٍ محدودةٍ غير متجسّدةٍ في النظامِ التعليمي بشكلٍ عميقٍ ومتكامل.

هل من المقبول في عصر الاتصالات وثورات الانفتاح أن يبقى طلّاب جامعاتنا أسرى عمليةِ إعادةِ إنتاجٍ اجتماعي لا إرادي؟ 

ونعود لما يحصل في باحات الجامعات الأميركية لنرى أنّه نتاج أنظمةٍ تعليميةٍ هيّأت طلابها ليفكروا ويتفكّروا بما يحصل في العالم، وليتساءلوا عن مشروعيته ويقيّموه وينتقدوه. لذلك أخذوا على عاتقهم نصرة الفلسطيني المهمّش الذي لا تربطهم به أيّة روابط، والذي اتخذته سلطاتهم ومؤسّساتهم عدوّاً لها. إلا أنّ هؤلاء الطلاب يشتركون مع الشعب الفلسطيني في أنّهم قرّروا تبني مبادئ الحرية والمساواة والإصرار، فتشابهت أهدافهم وإن اختلفتْ منطلقاتهم.

بدأت المظاهرات المندّدة بالجرائم الإسرائيلية، المنادية بالحرّية للشعب الفلسطيني، في الجامعاتِ الأميركية حصراً، لتصل أصداؤها إلى جامعاتٍ شبيهةٍ حول العالم. لكن، هل من المقبول ألّا نرى لها مثيلاً في جامعاتنا العربية؟ هل يجوز أن يبقى طلّاب الجامعات التي لا تتمتّع بالامتياز راضخين لحتمية أنّهم لم يتلقوا تعليماً يُنمّي فيهم مهارات التفكير العليا والقيم الحياتية الكبرى؟ وهل من المقبول في عصرِ الاتصالات وثورات الانفتاح أن يبقى طلّاب جامعاتنا أسرى عمليةِ إعادةِ إنتاجٍ اجتماعي لا إرادي؟ 

هي دعوة إلى أحرار العالم وطلّاب الحرّية، لأن يكسروا القيد ويستفيدوا من تقنيات التواصل للتعلّم من تجاربِ الآخرين وخبراتهم، والتواصل مع الناجحين والتفاعل معهم، فنحن أحقّ بنصرةِ قضايانا، وحريٌ بنا أن نحارب الظلم الذي حلّ بنا وننتصر لكرامتنا، ونثورُ في وجهِ الطغاة المستبدّين أينما كانوا في العالم أجمع.