الفلسفة والقرآن.. تكامل أم تضاد؟
إنّ البحث في جوهر مفردتي القرآن والفلسفة يأخذنا إلى البحث عن مدى تأثير هاتين الكلمتين على الإنسان. ونحنُ هنا إذ نقولُ القرآن، نقصدُ بهِ دستور الديانة بشكلها العام، أو بتحديد أشمل مفهوم الدين. ونقصدُ بمفردة الفلسفة، التعامل وإدراك المتغيّرات الحياتية بحكمة، فكلمة فلسفة بمعناها الإغريقي تعني حب الحكمة، وبتحديد أشمل هي النزعة البشرية للبحث في أصل الأشياء والوصول إلى تفسيرات محدّدة يحكمها منهج فكري وتأمّلي.
ومع اختلاف الأزمنة وتنوّع الأفكار وتباين الآراء، حصل انحراف في مفهوم الدين والفلسفة، كما يحصل من انحرافات في كافة المفاهيم الأخرى. فغدت الفلسفة من وجهة نظر البعض أفكارا تدعو إلى الكفر والإلحاد، وأصبح الدين لدى البعض شيئا يُحجّم عقل الإنسان ويُحدّد شكل مصيره واختياراته في الحياة بدون إدراك ووعي. إلا أنّ هاتين المفردتين تُشير إحداهما للأخرى في كثيرٍ من المناسبات، وليس بصحيح فكرة تضادهما وتنافسهما، إذ يقول فرانسيس بيكون: "قليل من الفلسفة قد يؤدي بك إلى الإلحاد، لكن التعمّق الشديد بالفلسفة يرمي بك في أحضان الدين". وهذه المقولة جديرة بالوقوف عندها قليلاً وتأملها. فالعلاقة بين الفلسفة والدين علاقة مترابطة ومتصلة، إلا أن طريق الفلسفة قد يكون صعبا ومجهدا للكثير من الناس، ونستند في حديثنا هذا إلى قوله تعالى في الآية 269 من سورة البقرة "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا"، وكلمة حكمة هنا قد تُشير إلى الفكر والإدراك، أيّ الفلسفة، أو قد تُشير إلى النبوة بمعنى يؤتي الله النبوة لمن يشاء والنبوة مقترنة بالفلسفة، فكل نبي هو بالضرورة فيلسوف، ولكن ليس كلّ فيلسوف بالضرورة نبيا.
العلاقة بين الفلسفة والدين علاقة مترابطة ومتصلة، إلا أن طريق الفلسفة قد يكون صعبا ومجهدا للكثير من الناس
ورد في القرآن الكريم في سورة لقمان "وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ" (الآية 12)، وكما هو معروف عند العوام، فإنّ لقمان لم يكن نبيًا، ولكنهُ قد أعطي الحكمة في العلم والفهم والإدراك. وبالتالي، فإنّ كلمة فلسفة إذا جردناها من تعبيرها الإغريقي، سنجد أنّها تُشير إلى جوهر الإنسان في الحياة، أي البحث والتأمل والإدراك والوعي والوصول إلى قناعات وأفكار بالتجربة والتحليل، والتدقيق وبدونها قد يتجرّد الإنسان من عقله، ويصبح كالدابة كما يُشير القرآن إلى ذلك في سورة الأنفال "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ".
وفي ذلك توصية قرآنية صريحة وواضحة إلى ضرورة التدبّر والتفكّر أو إلى ضرورة الفلسفة في حياة الإنسان، وعلى شاكلتها العديد من الآيات القرآنية التي توصي بالتفكر والتدبر، بل وحتى ضرورة النظر والتفكّر بطريقة فلسفية في الآيات القرآنية كما أشار القرآن في سورة محمد "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها"، ومفردة قلوب قد تشير إلى العقل كما يُرجّح اللغويون، وقد وضّح القرآن ذلك في الآية 45 من سورة الحج "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا".
ضبط المفاهيم المختلفة هو أولى خطوات تقدّم وتطوّر العقل البشري، ولا يتم ضبط المفاهيم إلا بالفلسفة
إذاً، فالدين والفلسفة يتجهان باتجاه واحد، إلا أنّ طريق الفلسفة قد يكون حكراً لمجموعة من الناس دون أخرى، فلا تجد الحكمة عند عامة الناس إطلاقاً، ولو حدث ذلك لما كانت هناك حروب وقتل وفساد ودمار، فُوجد الدين لتنظيم حياة الإنسان من جميع النواحي النفسية والصحية والروحية. وعند التدقيق ودراسة التاريخ سنجد أنّ الفلسفة كانت جزءاً من الفكر العربي الإسلامي، وسنجد كبار الفلاسفة المسلمين قد أحدثوا نقلة معرفية كبيرة في الفكر الإنساني.
وختاماً، إنّ آفة العصر وجميع العصور السابقة هو انحراف المفاهيم وعدول العقل البشري عن أصل المفهوم وطبيعة المفهوم وجوهر المفهوم ومن ضمنها مفهوم الدين، فضبط المفاهيم المختلفة هي أول خطوات تقدّم وتطوّر العقل البشري، ولا يتم ضبط المفاهيم إلا بالفلسفة.