الإنسان والمدينة... أية علاقة؟
المدينة بمفهومها العام هي تجمّع سكاني حضري أو مستوطنة حضرية ذات كثافة سكانية كبيرة، ولها أهمية معينة تميّزها عن المستوطنات الأخرى. فمنذ وجد الإنسان البدائي على سطح الأرض، كان يعيش في مجموعات صغيرة مستقلة تعتمد على الصيد والترحال، لذا لم تكن هناك نقاط تجّمع كبيرة لتستقر فيها تلك المجموعات الأولى من البشر. واستمر ذلك حتى بدأت الثورة الزراعية، ومعها بدأ ارتباط الإنسان بالأرض ليزرعها ويحافظ عليها ويقوم بحمايتها. هذا ما نستطيع تسميتهُ المفهوم العام لبداية نشأة المدينة، والتي تطوّرت شيئاً فشيئاً مع تطوّر الإنسان واستجابته لكافة المتغيّرات المحيطة به.
وبالنظر إلى مفهوم المدينة من الناحية الفلسفية، سنجد أنّ هناك مقولة تنسب إلى أفلاطون يقول فيها "لولا المدينة ما وجدت الحضارة الإنسانية"، ويمكن أن نستشف معنى هذهِ المقولة من خلال أول مدينة شيّدت في التاريخ، وهي الوركاء أو أوروك، حيث نجد أنّ هذهِ المدينة لعبت دوراً مهماً في التاريخ الإنساني بشكل عام، وفي الحضارة السومرية بشكل خاص، إذ ظهرت فيها أول أشكال الكتابة، وهي عبارة عن صور بسيطة للأشياء على ألواح طينية والمعروفة باسم الكتابة المسمارية. وعلى نفس النمط تقريبا، اخترعت العجلة المصنوعة من الفخار غير الملوّن، بالإضافة إلى العمارة حيث شُيّدت المعابد التي لاتزال حاضرة حتى الساعة وسط وأقصى جنوب العراق.
للمدينة تأثير مباشر على توّجهات الإنسان الفكرية والحضارية والثقافية والروحية
هذهِ الإنجازات وغيرها دليل على أنّ للمدينة تأثيرا مباشرا على توجّهات الإنسان الفكرية والحضارية والثقافية والروحية، حيث نستطيع فهم جوهر المدينة من خلال الدلالات آنفة الذكر. كما أنّ البحث في شكل العلاقة بين الإنسان والمدينة يجعلنا نخوض في علاقة الإنسان بالمكان، وبالتالي معرفة من يؤثر في الآخر، حتى نتمكن من تحديد صورة هذه العلاقة. فإذا قلنا إنّ الإنسان هو من شيّد المدينة بفكره، فماذا في قولنا "إنّ الإنسان ابن بيئته"ّ؟ إذ تشير الدلائل إلى الإسهام ذي التأثير الواضح للمكان في تكوين وعي الإنسان، وحتى في تحديد طباعه وتوجّهاته. والتاريخ يزخر بجملة من الأمثلة على تأثير المكان في توجّهات الأفراد المقيمين أو حتى الوافدين، فمثلا، كانت بغداد في العصر العباسي هي مدينة العلم التي يقصدها الوافدون لغرض التزوّد منه. ولم تكن هذهِ المعرفة المرجوة تُعطى في دور العلم فحسب، بل نراها ماثلة حتى في شكل المدينة المدوّر ونظام توزيع المياه والبناء المعماري الفريد، وغير المسبوق، حتى سمّيت "جوهرة الدنيا".
بناء على هذا، يمكن القول إنّ الإنسان يستجيب للمكان الذي يعيش فيه ويتأقلم مع جميع التنبيهات التي تصدر منه، ويكون اختلاف الاستجابات تبعاً للمكان الذي يحيط به. فالإنسان بوصفه الكائن الأكثر وعياً بالمكان يمتلك حساسية مكانية تتيح لهُ القدرة على الانتظام المكان عبر الإقامة فيه. كما أنّ تأثير المدينة المباشر على الإنسان على جميع الأصعدة، هو ما دفع الفلاسفة (ومن ضمنهم الفارابي وأفلاطون) إلى طرح تصوّرات عن فكرة المدينة الفاضلة، أو كما يطلق عليها باليونانية "يوتوبيا"، والتي هي أفكار لمدينة فاضلة تسود فيها قيم العدالة والنظام ويسمو بها الإنسان.
إن أساس وجود المدينة هو السيطرة على توجّهات المجموعة، فتسلك سلوكا منظّما يخدم المجموعة وهكذا تنتفع المجموعة وتزدهر وتنمو المدينة.