العروي والقضايا العربية

12 نوفمبر 2023
+ الخط -

ما الذي قدمه المثقفون العرب لمجتمعاتهم، أو للمجتمع العربي ككل، بعد أزيد من قرن ونصف تقريباً على بداية النقاشات وفكرة الوحدة العربية؟ ما الذي أسهم به هؤلاء؟

سؤال لا يسعني الإجابة عنه هنا، لكن أخشى ما أخشاه هو أن تكون تلك الإجابة التي رددها أحد الصحافيين اللبنانيين صحيحة، وهي أن العرب عاشوا هذا القرن من أجل لا شيء، وجعل هذا الشعار عنوانا لأحد كتبه بالفرنسية، والمتأمل في الواقع العربي اليوم، قد لا يخفى عليه، بعض من صدق هذه المقولة، لنستنتج ربما من هذا الجواب، أن المثقفين العرب لم يقدموا لمجتمعاتهم شيئا، غير أنه بالتدقيق ربما قد يبدو هذا الجواب غير صحيح.

في أحد الفيديوهات المنشورة على وسائط التواصل الاجتماعي، يظهر المهدي المنجرة المفكر المغربي المشهور، وهو يصرخ، لا يوجد هناك مثقف عربي يحمل قضايا وطنه، أعطوني أي مثقف أقول لكم ثمنه، بعضهم تستطيع شراءه بوظيفة معينة، والآخر بمبلغ مالي معين، وآخر بوزارة أو غير ذلك. لكل مثقف ثمن معين، تستطيع شراءه به، ومعنى هذا الكلام القاسي حقيقة هو أن المثقفين في الوطن العربي، ليسوا مؤهلين لتحمل مسؤولية الدفاع عن قضايا معينة، بل هم يمتهنون الثقافة كوسيلة للتكسب، وكأنهم يعيدون تلك العادة القديمة للشعراء، الذين يمدحون الأمراء بغية التكسب، فإذا لم يعط لهم ما تقر به عيونهم يهجونهم، وما وظيفة المثقف اليوم إلا أقرب لتلك.

هل الكلام السابق صحيح أم هو فقط انطباع خاطئ؟ لو أردنا تأكيد ما سلف عن طريقة إحصائية معينة، بكل تأكيد سنجد أن الأمر صحيح، هل هذه الظاهرة خاصة بالمجتمع العربي، بكل تأكيد لا، ولكنها في المجتمع العربي أكثر، مثلا لم لا نجد أن هناك مثقفين غربيين يخدمون القضايا العربية بغية الدفع لهم، قد نجد من يخدمها لكن لأحد أمرين، إما لمصلحة بلاده، أو لمشروع فكري يشتغل عليه. كما نجد الكثير من المستشرقين يفعلون، لكن في المقابل نجد الكثير من المثقفين العرب يخدمون مشاريع أجنبية، حتى إنه في بعض الأحيان يأخذهم هذا الأمر للمحاكمة، تحت طائلة التعاون مع جهات أجنبية، لنتساءل أين الإشكال.

نحن أمة ضعيفة، وبالتالي فقانون ابن خلدون يسري علينا، الضعيف يقلد القوي، بل ويسعى إلى التماهي معه، ربما قد يكون لهذا الأمر شيء من الصحة، غير أنه من المؤكد أن ليس كل المثقفين العرب على هذا المنوال، فهناك مثقفون فعلاً خدموا أوطانهم بكل فخر، بل ورفضوا الأموال الطائلة، مقابل بيع ذمتهم، وعاشوا الكفاف والعفاف، وظلت قضاياهم تسكنهم، قد نتفق أو نختلف مع توجهاتهم وقناعاتهم، لكن المؤكد هو صدقهم وتفانيهم في خدمة قضاياهم العربية.

العروي مقتنع بأن الحداثة هي حدث مفصلي وحتمي في تاريخ الإنسان، وبالتالي فإن كل المجتمعات لا خيار لها من غير أن تعيش نفس التجربة

ليس هذا مقام الإطراء عليهم، ولكن هو مناسبة للحديث عن رجل، قدم الكثير للوطن العربي، وهو المفكر المغربي عبد الله العروي، الذي احتفل هذا الأسبوع بعيد ميلاده التسعين، كرس العروي حياته لخدمة القضايا العربية، بدءا من كتابه "الأيديولوجيا العربية المعاصرة"، وبالرجوع إلى ذلك التاريخ فإن الظروف الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة آنذاك، وطبيعة الدراسة التي تلقاها، كان لها دور في صدور بعض الأحكام القاسية، تجاه المجتمع العربي الإسلامي، لكن كتبه التالية، كثير منها كانت منصفة للثقافة العربية، بل ولقضاياهم أيضا، ومن يشاهد لقاءه في القناة الثانية المغربية وهو يدافع عن اللغة العربية يعلم جيدا ما أقول، حيث اعتبر أن اللغة هي حاملة لحضارة، وبالتالي فهي أكثر من مجرد أداة للتواصل أو وسيلة للتعليم، بل حاملة وحافظة لحضارة عربية.

العروي مقتنع بأن الحداثة هي حدث مفصلي وحتمي في تاريخ الإنسان، وبالتالي فإن كل المجتمعات لا خيار لها من غير أن تعيش نفس التجربة، والمجتمع العربي نفسه بدون شك، لكن ما هي الحداثة، هناك تعريفات عدة، لكن أعتقد أن العروي يرى فيها أمرا واحدا، وهو العقلنة، في السياسة، الدولة، الاقتصاد، التاريخ، العلوم، والدين أيضا.

سيخصص سلسلة كتب تحمل عنوان "مفهوم"، ليشرح كل هذه الأمور، وبالتالي فالعروي يرى أن مشكلة المجتمع العربي، أنه يجب أن يتخلص من ثقافة الأم، ويعيش مرحلة الفطام، وهي العقلنة، بكل تأكيد هذا الأمر له تبعات، وهو يعرفها ويقر بها، لكن الحداثة حتمية، ولا خيار غيرها.

سفيان
سفيان الغانمي
باحث في الفكر الإسلامي، حاصل على الإجازة في علم النفس، وباحث في سلك العالمية العليا التابع لجامع القرويين بفاس، مدون مهتم بالفكر والأدب. يعرّف عن نفسه بالقول: "حبر الطالب أقدس من دم الشهيد".