الصمت خيانة للإنسانية

الصمت خيانة للإنسانية

20 مارس 2024
+ الخط -

طغى صمتُ العالم على أصواتِ القصف وصيحات الضحايا في قلب غزة، حيث تتوالى المأساة في صمتٍ لأكثر من خمسة أشهر أدار العالم فيها ظهره لمحنةِ المحاصرين وهم يواجهون عدوان لا هوادة فيه وإبادة ممنهجة. وعند كتابة هذه الكلمات يقترب عدد الشهداء الفلسطينيين في غزة من حاجز الاثنين وثلاثين ألف شهيد، وما يقرب من أربعة وسبعين ألف جريح، بينما يتم حصار وتجويع مليوني فلسطيني بشكل ممنهج.

أرقام اختزلت في سطرٍ تخفي وراءها حيوات وقصصاً وعوالم لا متناهية من الحبّ والأمل والطموح، عوالم أنارت دنيانا لوهلة، ولم يُكتب للكثير منها أن يصل إلى منتهاه بسبب الشرّ المطلق في هذا العالم البشع، أرواح تعاني منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً، وتُباد بمنتهى الهمجية منذ أكثر من خمسة أشهر في بثٍّ حيٍّ ومباشر على مرأى من عالمٍ تُهلّل أنظمته القمعية بغالبيتها للمجزرة الدائرة بلا رحمة، عالم ظلّ المجتمع الدولي فيه صامتاً بشكل مرعب بلغ حدوداً غير مسبوقة من التواطؤ في الإبادة الجماعية المستمرة.

ولم يؤد العدوان الصهيوأميركي إلا إلى تفاقم معاناة شعب غزّة الذي يعاني من حصار الأخ قبل العدو منذ عقود، إذ أدى القصف المتواصل الذي يستهدف المدنيين وتوّغلات الاحتلال البرية، وما تبعها من جرائم ومجازر وحشية بحق الفلسطينيين إلى تحويل المنازل إلى أنقاض والشوارع إلى مقابر. تمزّقت العائلات ومُحيت عائلات بأكملها من السجل المدني، وتحطّمت سبل البقاء، وقتلت الأحلام في نفق من الدمار والعدوان لا يظهر آخره حتى هذه اللحظة.

ولعل الأمر الأكثر إدانة هو الصمت المطبق للمجتمع الدولي، فعلى الرغم من الفظائع الصارخة التي تتكشّف أمام أعين المجتمع الدولي كلّ يوم منذ أكثر من 165 يوماً، فقد اختار زعماء العالم أن ينظروا في الاتجاه الآخر إلّا من رحم ربي، وكان صدى تقاعسهم عن العمل أعلى من أيّ إدانة. وبدلاً من تقديم العزاء والدعم للضحايا، ساهم الغرب وحلفاؤه ودُمَاه بشكل مخزٍ في المذابح، مما أرسل رسالة واضحة لعصابات لصهاينة بأنّ بإمكانهم متابعة جرائمهم دون أيّ تبعات حقيقية، وأنّهم بالفعل سيتمكنون من الإفلات من العقاب حتى بعد توثيق جرائمهم وما اقترفوه من فظائعٍ بُثّت متلفزة حول العالم.

لا شيء يمكن أن يبرّر التخلّي عن أرواح الملايين من الأبرياء

ما هي أسباب هذا التواطؤ المقيت؟ لم كلّ هذا الصمت واللامبالاة؟ فلا شيء يمكن أن يبرّر التخلّي عن أرواح الملايين من الأبرياء، وعلى الرغم من ذلك فقد خيّمت السياسة الاستعمارية على البوصلة الأخلاقية لكثير من الأنظمة، مما جعلها غير مبالية بمعاناة المضطهدين. وبدا أنّ الخوف من الإخلال بتوازنات القوى الدقيقة بات سبباً في نشوء سياسة استرضاء الصهيوأميركي، حيث تمّت التضحية بحقوق الإنسان الفلسطيني على مذبح النفعية السياسية.

ومن جانب آخر، استمرّ الإعلام الغربي المرتزق وإمّعاته من الإعلام العربي وجيوش الذباب الإلكتروني الصهيوني والمتصهين لشهورٍ في محاولة تشويه السردية المحيطة بغزة والمقاومة، في محاولة بائسة لتحويل الضحايا إلى مجرّد إحصاءات في لعبة جيوسياسية قذرة، حاولت فيها الدعاية والمعلومات المضلّلة تحريف الواقع على الأرض، مما ساهم، ولو جزئيًا، في إدامة الصور النمطية والأحكام المسبقة التي تجرّد الضحايا من إنسانيتهم وتبرّر معاناتهم.

ولكن الخيانة العظمى تجلّت في فشل التعاطف حتى من قبل بعض الأخوة مع معاناة الضحايا، وعدم قدرة المجتمع الدولي على الاعتراف بإنسانية سكان غزة وحقهم في الحياة والحرية والرفاه والمقاومة. وتجاهل كثير من العرب قبل العجم أنّ خلف عناوين الأخبار تقف أمهات ثكلى على أطفالهن، وأطفال يُتمّوا وسُلبت براءتهم، ومجتمعات مزقها العدوان الصهيوأميركي. خلف العناوين صرخات لا تجد آذاناً صاغية، وأكثر من مليوني مضطهد تم تجاهل معاناتهم باعتبارها أضراراً جانبية في سبيل تحقيق أهداف المستعمر الغربي الأبيض وحليفه الصهيوني ومجموعة من الشراذم هنا وهناك.

خيّمت السياسة الاستعمارية على البوصلة الأخلاقية لكثير من الأنظمة، مما جعلها غير مبالية بمعاناة المضطهدين

لقد حان الوقت ليخرج العالم عن صمته ويقف إلى الجانب الصحيح من التاريخ. لقد حان الوقت ليتوّقف العالم عن النواح وذرف دموع التماسيح والعمل على الأرض لإيقاف المذبحة وإنهاء الحصار ومحاسبة المجرمين، لقد حان الوقت لوقف الاستعراض والمتاجرة بأرواح أهل غزة.

ومع أنّني أشك في أنّ هذا سيحصل، فإنّه لا يمكننا كأفراد أن نتوّقف عن الكتابة والحديث والتبرّع والمقاطعة وغيرها من أفعال النصرة، فنحن مدينون لأهلنا في غزة بأن نستمر في العمل والحديث حتى يتوقف العدوان وتزول هذه الغمة وينتهي الكابوس، نستمر في الحديث لعلّ وعسى تجد الأصوات التي كتمت في غزة تحت القصف والركام صدىً من خلال كلماتنا، لا نستطيع التوّقف عن أيّ فعل يمكن أن يشكل ضغطًا على حكومات ومؤسسات العالم المتواطئ، وتذكير للمتخاذلين منّا للقيام بواجبهم الإنساني، لا نستطيع التوّقف عن نصرة من يحاول القتلة تجريدهم من أرواحهم وإنسانيتهم وكرامتهم، نصرة من يتم سلب ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم. 

طالما استمرت الإبادة الجماعية في غزة وحصارها الجائر، دعونا ننأى بأنفسنا عن صمتِ العالم ولنتشبّث بآخر ما تبقى من إنسانيتنا ولنرفع أصواتنا في إدانة العدوان والمطالبة بوقفه وإنهاء الحصار فورًا، وبمحاسبة المجرمين ومن تواطأ معهم ولو بشق تمرة. دعونا نمدّ يد العون إلى إخواننا في محنتهم، وننقذ ما تبقى من إنسانية في دواخلنا قبل إنقاذ الآخرين. 

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.