السُلطة اللُّغويَّة ومسألة الجندريَّة (15)

13 مارس 2023
+ الخط -

اللغة بشكلها العام ما هي إلَّا ترجمة واقعيَّة لثقافة مجتمعيَّة متفشِّية بكلّ أبعادها المُحتمَلة، وفي الوقت ذاته للغة سُلطة تمنحها صلاحيَّات تساهم في تشكيل الواقع. إنَّ نطاق حديثنا هنا يدور حول إشكاليَّة تطويع اللغة لصياغة مسألة الجندرية، واستنادًا إلى ذلك ستكون اللغة هنا وسيلة لا هدفا، تُستخدم في صياغة أيدولوجية فكريَّة وثقافيَّة مدروسة؛ غايتها تشكيل الوعي أو تشتيته -إنْ صحَّ التعبير. إنَّ للغة سلطة على الواقع، ولهذا لا ينبغي الاستهانة بمدى أهمِّيَّتها وصور استعمالها، من خلالها نستطيع إطلاق تعميمات تمهِّد إلى صور لتصبح نمطيَّة في السياقات الاجتماعيَّة، يحتكم إليها المجتمع أفرادًا وجماعات.

ولئن اقترن الجندر بمفهوم اللُّغة؛ فإنَّ مفهومًا ثالثًا أصبح ملازمًا حيز القول، ألا وهو "جندرة اللُّغة"(Genderizing)، ولا يقتصر الحديث هنا على تطويع اللُّغة لتقف في صفِّ الرجل وتقلل من فرصة المرأة في الحصول على وصف منصِف، ومَنْ ينظر في حيثيات الموضوع على عواهنها؛ فلن يدرك المقاصد من طرحه؛ ولذلك لا بدَّ من الإمعان والتدبُّر. وإنْ افترضنا أنَّ كلّ شيء يدور في حيز اللُّغة إنَّما يستند في ذلك على العلاقات؛ فإنَّنا حين نحتكم إلى مفهوم العلاقة نجد أنَّها تتكوَّن من توليفات عدَّة، كلّ واحدة منها تقودنا إلى قيمة معيَّنة، وفي مسألة "جندرة اللُّغة" نحن أمام اللُّغة أوّلًا من حيث هي هويَّة ذاتيَّة، واللُّغة من منظور فيزيائيّ متمثِّل في العمليَّة العصبيَّة التي يمرُّ بها الفكر وصولًا إلى كلام منطوق وصوت مسموع وهذا يمثِّل الهويَّة الوظيفيَّة للغة، ثم إنَّنا -ثالثًا- أمام الخلاصة وهي القيم المقصودة من الكلام.

إنَّ العلاقة بين اللُّغة والجندر ضاربة في أعماق المكان والزمان أيضًا، فهناك ثقافات مجتمعيَّة في أحواز معيَّنة ضمن مناطق معيَّنة وحقب زمنيَّة محدَّدة تُخضِع اللُّغة -بمبانيها ومعانيها- لخدمة مسألة الجندر دون وعي منهم، وتضع المرأة في حيز الانقطاع عن التقدير والاحترام والإنجاز. ذلك -بالضرورة- نابع من الثقافة المجتمعية والتوجهات التربوية.

العربيَّة عمَّمت الاستخدام في اللفظ المذكّر؛ إذْ نسي أولئك أنَّ اللفظ الذي يُوصف بـ"المذكّر" هو لفظ محايد؛ بل يخلو من أيّ دلالة على جنس فاعله

لكنّ أيامنا هذه شهدت فضاءات ثقافيَّة جريئة، وقفت في وجه المعادلات الاعتياديَّة في ما يتعلّق بمسألة الجندر، وقد نشأت هذه الرؤية في ضوء المقاربات الفكريّة المعاصرة، متأثِّرة بالثقافات الغربيَّة إلى حدٍّ ما، أمَّا بالنسبة للغة في هذا السياق؛ فهي وليدة التداوليَّة وتحليل الخطاب، إذْ إنَّنا حين نحاول قراءة أفكار النَّاس من خلال لغتهم؛ سنتفاجأ -كمًّا وكيفًا- من ناحية التعاطي مع اللُّغة وعلاقة ذلك بتشكيل الفكر وبناء المعتقدات، وصياغة التوجُّهات والسلوكيَّات أيضًا؛ لذلك كان لا بدّ من الوعي بخطورة كلّ كلمة يُلقَى بها في حيز الوجود، يمكننا القول إنَّ صراع الوجود بين الرجل والمرأة بات حديث العصر، وفتح بوابة النقد على الماضي والحاضر والمستقبل، كي تُنصَف المرأة وتتحقَّق العدالة بدلًا ممَّا سُلب منها في الماضي.

ولكن لهذه المسألة وجهًا آخر، وهو ما لا يُدركه الكثيرون، حيث إنَّ "جندرة اللغة" هي من البنود الحساسة في حزب النضال النسويّ، والتي قد يُعدُّ طرحها في السياقات الثقافيَّة العلميَّة ضربًا من الرفاهية في ظلّ المعارك التي تخوضها المرأة في سبيل تحصيل أدنى حقوقها. إلَّا أنَّنا حين يدور رحى كلامنا عن اللغة العربيَّة ومسألة الجندرة؛ فالملاحظ أنَّها تواجه تهمة بوصفها لغة ذكوريَّة، ونحن لسنا مع هذا الرأي جملة وتفصيلًا. إنَّنا نؤمن بأنَّ للغة قوَّة وسلطة لأدلجة صور وتصوّرات معيَّنة، ولكنّها في ذلك شأن المُخاطِب والمُخاطَب على حدٍّ سواء، أمَّا اللُّغة في ذاتها هي أداة للوصول إلى هدف ما، ويمكن القول إنَّ العربيَّة عمَّمت الاستخدام في اللفظ المذكّر؛ إذْ نسي أولئك أنَّ اللفظ الذي يُوصف بـ"المذكّر" هو لفظ محايد؛ بل يخلو من أيّ دلالة على جنس فاعله، وهو صحيح على الوجهين للذكر والأنثى. بينما خصَّصت العربيَّة استخدام اللفظ المؤنث ليشمل الأنثى فقط؛ فمثلًا: لفظ شباب، طلَّاب، أطبَّاء... هذه الألفاظ تشمل الذكر والأنثى، لكن في حال قُلنا: شابَّات، طبيبات، طالبات...إلخ فإنَّنا نخصُّ -هنا- الأنثى فقط.

ومحصِّلة القول؛ إنَّ اللُّغة العربيَّة ليست لغة متحيِّزة، إنَّما مستعملوها هم المتحيِّزون، فالأجدر في هذا السياق أنْ نجد جذر المشكلة أوَّلًا ونعالجها، لا أنْ نسارع بإلقاء اللوم على اللُّغة، كذلك لا يمكن أنْ نُسقط نتائج النقد الغربيّ للغاتهم على اللُّغة العربيَّة، إذ إنَّ هناك العديد من الاختلافات الجوهريَّة التي تجعل العربيَّة مختلفة عن اللُّغة الأجنبيَّة، لذلك يجب على مَنْ يخوض في مسألة اللُّغة أنْ يكون على دراية بمتعلقاتها وخصائصها، أمَّا إنْ كان جاهلًا بلغته؛ فلا يحقُّ له أنْ يبثَّ فيها وفق آرائه والخيالات التي في مخيِّلته، إنَّ "جندرة اللُّغة" في المخيال النسويّ قد تكون ردَّة فعل على الواقع غير المُنصِف، لكنَّ ردود الأفعال ليست بالضرورة  صوابًا على الدوام.

رولا القطاوي
رولا القطّاوي
من مواليد فلسطين- غزة عام 1997م، باحثة مختصّة بالشأن اللسانيّ والمعجميّ المعاصر. حاصلة على الماجستير في اللسانيّات والمعجميّة العربيّة من معهد الدوحة للدراسات العليا - قطر، لها العديد من المقالات والبحوث المتخصّصة، تتمحور اهتماماتها البحثيّة حول علم اللغة الاجتماعيّ ولسانيّات النصّ، وتحليل الخطاب علاوة على الاهتمام بالدراسات الدلاليّة المعجميّة.