بلورة الهوية الوطنية الفلسطينية
يُعدّ مفهوم الهويّة من المفاهيم المركبة؛ لكونه متعدّد العناصر، سواء أكانت اجتماعية، أم سياسية، أم ثقافية، وتختلف تعريفاته باختلاف المستويات المحلية والقومية والعابرة للحدود، ما جعله مصطلحًا اختُلف فيه باختلاف وجهات النظر، الأمر الذي يخلق هُويات سياسية مثلًا، هي بعدد التيارات السياسية الفكرية الأساسية في الساحة الوطنية.
هذه التيارات يعكس كلّ منها تصوّرًا خاصًا به للهوية القومية، قد يقترب أو يبتعد عن جوهرها، وتكتسب كلّ هوية سياسية مقدارًا من المشروعية يساوي مدى تعبيرها عن الطموح الشعبي الأصيل. فالهوية ليست مجرّد قيمة في ذاتها، أو في ما تختلقه من شعور بالخصوصية، بل تنبع قيمتها مما يوّفره الإطار الفعلي من فرص حقيقية للتقدم وتوسيع هامش المبادرة التاريخية للشعوب. وبشكل عام، للهوية كينونة مستمرة في التعريف عن ذاتها من خلال علاقتها بالآخر في إطار السياق الاجتماعي والتاريخي المحدّد.
ويمكن القول إنّ الهوية هي الرمز والعامل المشترك الذي يُعتبر محطّ إجماع عند كلّ أفراد الأمة، وذلك من حيث الانتساب والولاء والاعتزاز، ولا شك أنّ هذا الولاء يكتسب قداسته من الإجماع عليه.
قد تبدو قضية الهوية في السياق غير الفلسطيني موضوعًا تقليديًا لا جديد فيه، يشير في كلّ الأحوال إلى مجموعة من الأعراف والتقاليد والمعايير التي ترتبط ببيئة اجتماعية حالتها الاستقرار، غير أنّ ما يبدو تقليديًا لدى غير الفلسطينيين، هو بطبيعة الحال غير تقليدي عند الفلسطينيين. وما يبرّر ذلك، أنّ الفلسطيني فقد أرضه واستقراره في عام 1948م، ولجأ معظم الشعب الفلسطيني إلى بلدان مضيفة، باعتبار أنّ الإقامة في تلك البلدان مؤقتة.
وقد طُرح موضوع الهوية الوطنية الفلسطينية بشكل غير معهود عن غيره من القوميات، الذي يفسّره ما سبق ذكره، ناهيك بما ورد في خطاب الرئيس الراحل ياسر عرفات في استراتيجيته المعهودة، كلّ ذلك أضفى زخمًا غير مسبوق على مسألة الهوية الوطنية الفلسطينية، وساهم في خلق حسّ قومي هُوياتي عند كلّ مواطن فلسطيني.
كلّ فلسطيني يحمل قضيته على كاهله، الأمر الذي ساهم في تأصيل الهوية الفلسطينية وترسيخها، وثباتها على موقف المقاومة بكلّ أشكالها
ولا يعترينا شك في أنّ الكثير ممن كتبوا في سياق القضية الفلسطينية كتبوا بعواطفهم وإيديولوجياتهم، وكان بعضهم يعيد تصنيع أساطير سياسية عن أمة موحدة عبر التاريخ ليعيد بناء هويتها، وكان آخرون يؤمنون بتجزئة فلسطين والعيش بسلام مع الصهاينة على أرض فلسطين، وهنا سنجد أنَّ وجهات النظر قد اختلفت وتباينت.
ومن نوافل القول إنّ مسعى القائلين بأنّ الهوية الوطنية الفلسطينية اندثرت وخَفَتَ وهجها بسبب تشرذم أبنائها وتشتّتهم في شتى بقاع الأرض... إنّ ظنهم في ذلك خاطئ ومسعاهم لا سبيل إليه، فكلّ فلسطيني يحمل قضيته على كاهله، الأمر الذي ساهم في تأصيل الهوية الفلسطينية وترسيخها، وثباتها على موقف المقاومة بكلّ أشكالها، وصراعها الدائم مع المشروع الصهيوني.
إنْ كانت الهوية تُعرف (كما أسلفنا) بدلالة اللغة والثقافة والدين والوعي الجماعي ومعايير الحياة الاجتماعية، فإنّ تعريف الهويّة الفلسطينيّة لا يقتصر على ذلك ولا ينحصر فيه؛ إذ إنّ العنصر الحاسم فيها، الذي يُعيد تعريف هذه العناصر في بوتقة خاصة، هو التجربة الطويلة دفاعًا عن هذه الهوية التي لم ينفك الاحتلال يومًا عن محاولة سرقتها ونسبتها إليه منذ بدء هيمنته على أرض فلسطين، فتشتّت أبناء فلسطين خارج أرضهم، وتشرذمهم داخل وطنهم بفعل الاحتلال، يجعلان سؤال الهوية، وما يدور حوله من تجلّيات، صعبًا ومرتبطًا بتجارب التهجير والمنفى والنضال من أجل العودة أو الصمود على الأرض تحت هيمنة الاحتلال وما يضفيه من اضطهاد وقهر.