السياحة الدرامية
لطالما كنت محتارة لعمق تأثّر الناس بالدراما التلفزيونية. ربّما لأنه في كلّ منّا طفلٌ صغيرٌ يعشق أن تُحكى له حكاية. نكبر، ولا تزال تلك الرغبة موجودة في دواخلنا كالنافذة، نفتح شباكها المغلق من حين لآخر على عوالم مثيرة، كلّما أردنا أن نهرب من واقعنا المزداد سوءاً إلى حياة خالية البال.
ودائماً ما كنت أُعجب من درجة تماهي الجمهور مع ما جاء في الدراما، إن كان ذلك فيلماً أو مسلسلاً. ولأكن أكثر دقة، تماهيهم مع الشخصيات، مع البطل أو البطلة في أدوارهم. وعلى ما يبدو أنّ مشاهدي المسلسلات هم أكثر تصديقاً واستهلاكاً لما جاء في قصصها من متابعي الأفلام. ربما لأنّ جمهور المسلسلات بيتي، كونه جمهور تلفزيون، مكوّن بنسبة أكبر من فئات متواضعة المستوى المعيشي، وبالتالي التحصيل العلمي، وبالتالي أكثر حرماناً. ولذلك ربما أيضاً هم الأكثر حاجة للهروب من واقعهم، أو ربما أيضاً وأيضاً، هو إغراء الخيال وإمكان السفر الوحيد المتوّفر لهم عبر الحكايات والأقاصيص إلى أماكن مدهشة، سهلة العيش، وفوق ذلك يحدث فيها غير المتوّقع: فتنشدّ أفئدتهم إلى مفاجآتها تارة، وإلى ما يصبون إلى حصوله تارة أخرى، ولو لغيرهم، ممن يغدون أبطالهم، فهم السياسيون والمنتجون ذلك العطش للتماهي مع الدراما وأبطالها، ولو عبر استهلاك ما يستهلكه هؤلاء الأبطال. فأكثروا من حشو أعمالهم بسلع تجارية بحتة في الحدّ الأدنى، وبأخرى ثقافية فكرية تُمهد أحياناً لعبور ونشر الإيديولوجيات، كما يحصل في الدراما التركية وبغزارة مؤخراً.
لكن المثير للدهشة مدى تأثير الدراما على السياحة في تركيا مثلاً. فالمشاهد يريد أن يعيش ما رآه وما شاهد أبطاله يفعلونه. هكذا ترى هذا النوع من السيّاح يجوبون المناطق التي صُوّر فيها هذا الفيلم أو ذاك المسلسل، مندهشين من وجودهم في الأماكن نفسها التي كان فيها أبطالهم.
هكذا، عرفت سورية مثلاً قبل الحرب، إقبالاً سياحياً يحنّ إلى أيام "باب الحارة"، وشخصياتها، ببساطتها القروية والقيم الأخلاقية التي ظنّ الناس أنهم ما إن يصلوا إلى دمشق، ستكون في متناولهم. وكنت ترى في البلدان العربية مقاهي ومطاعم اتخذت من اسم المسلسل اسماً لها.
يجوب السيّاح المناطق التي صُوّر فيها هذا الفيلم أو ذاك المسلسل، مندهشين من وجودهم في الأماكن نفسها التي كان فيها أبطالهم
ولا تخرج الدراما التركية عن هذا المنطق. لا بل، إنّ صنّاعها قد يكونون الأكثر فهماً لهذا المنحى واستخداماً له. هكذا، أكثروا من استخدام وتنويع "اللوكيشن" (أي أماكن التصوير)، مروّجين تارة لإسطنبول وبوسفورها وباصاتها البحرية (مسلسل امرأة مثلاً)، وتارة للبحر الأسود (مسلسل البحر الأسود) وقراه وتقاليده المحافظة، جاذبين بذلك فئة من السياح المتدينين والمحافظين. ولقد نوّعوا ترويجهم، فركزوا أيضاً على السياحة الغذائية عبر إلحاح الأبطال على ذكر بعض الأطباق التركية في المشاهد، مثل طبق "البوراك"، أي الفطائر بالجبنة التي روّج لها فيمن روّجوا "مهند" (الممثل التركي كيفانش تاتليتوغ) في مسلسل "العشق الممنوع"، وفي مسلسل "شمال جنوب"، أو طبق "المانمان" الذي ركزت عليه مشاهد كثيرة في مسلسل "الحفرة" خاصة (تبيّن أنه مجرّد بيض ببندورة)، أو الترويج لقهوة البطم في مسلسل لم أعد أذكر اسمه.
هكذا، أيضاً، وجدنا منذ انتشار هذه الدراما اقتباساً لكثير من العادات التي وردت فيها، فدخلت مخيلة الناس. أحبوها وقلدوها تماهياً مع العالم التركي الذي صوّرته، والذي تاقوا إلى التعرّف إليه واستهلاكه مادياً، ونفسياً أكاد أقول.
ومنذ فترة، بدأت ألاحظ في لبنان مثلاً، تقليداً للعادة التركية في خلع الحذاء عند الباب وعدم الدخول به إلى البيوت، وهذا شيء لم أكن أراه بتاتاً من قبل. أو وضع حذاء المُتوفى أمام الباب، أو رشّ الماء خلف المسافرين تمنياً بعودتهم سالمين. وحتى في قريتي البعيدة في أقاصي الجبال، بدأت تظهر في المقبرة قبور غير مبلطة بالكامل، بل يتوّسطها مستطيل من العشب الأخضر زُرعت فيه زهور تُسقى بانتظام كما نراها في المسلسلات. ومع أنّ أصدقاء لي قالوا إنّ عادة، أن يُؤذّن في أذن الوليد حديثاً، كانت موجودة على نطاق ما في بيروت القديمة، إلا أنها شهدت انتشاراً واسعاً، خاصة في أوساط المسلمين السنة، بعد أن رأوا السلطان سليمان يقوم بذلك في مسلسل "القرن العظيم" المدبلج بعنوان "حريم السلطان".
وبما أننا نحكي عن الدبلجة، لا يمكن إغفال دور الدبلجة باللهجة السورية في سرعة انتشار الدراما التركية عربياً، وهي التي كانت مجهولة تماماً عند هذا الجمهور الطويل العريض، بسبب اختلاف اللغة من جهة، وتعلّق الجمهور بالدراما المصرية والسورية أيامها من جهة أخرى. ليس بالضرورة تلك التي على شاكلة "باب الحارة"، بل الجيدة فعلاً كمسلسلات الراحل باكراً للأسف، حاتم علي، والموهوب الليث حجو، وغيرهم كثيرون.
لا يمكن إغفال دور الدبلجة باللهجة السورية في سرعة انتشار الدراما التركية عربياً
ومع أننا لا ننفي تزامن انتشار الدراما التركية والإقبال على السياحة في تركيا مع الانفتاح التركي أيام سياسة "صفر مشاكل" على العالم العربي (مع أنها رست بعدها على مشاكل بأصفار كثيرة) إلا أن المرحلة درامياً، كانت مؤاتية تماماً لشيء جديد يبهر عيون المشاهد العربي بعد سنوات من القحط الدرامي، وتدني مستوى الدراما إلى درجات لم تعد مقبولة حتى لمشاهد غير متطلّب.
بفضل الدراما التركية ودبلجتها، تغيّرت أذواق المشاهد العربي، خاصة الفئات الشابة التي كانت قد خرجت من عباءة التلفزيونات المحلية عبر القنوات العابرة للحدود إلى العالم، فلم تعد ترضى بتلك الدراما المتدنية المستوى التقني أو المحصورة مواضيعها ببيئة صارت ضيّقة، مقارنة بالعالم الرحب الذي باتت توّفره الترجمة والدبلجة ومنصات البث الرقمية. دراما مللنا من مشاهدتها في السنوات الأخيرة، والتي كانت بمعظمها، أكاد أقول، إنشائية، لا تمتّ إلى صناعة الصورة إلا بقربى بعيدة كونها تبثّ مرئياً.
ولقد عدت إلى وثائق رسمية تتحدث عن السياحة في تركيا، فوجدت أنها تضاعفت بشكل مدهش بين أواخر التسعينيات وعام 2018، إذ كان عدد السياح في عام 1998، يبلغ أقل من عشرة ملايين سائح، وإذ بها تبلغ عام 2013 أربعين مليوناً، لا أعرف نسبة العرب فيها، لكن مجرّد أن تعرف في محيطك على الأقل، عدد الأشخاص الذين يزورون تركيا بانتظام منذ عقد أو أكثر، خاصة بعد أن ألغت تركيا تأشيرة الدخول لغالبية تلك البلدان، ستفهم ما أقول. صحيح أنّ هذا الإقبال، كما تشهد به الأرقام تراجع بعض الشيء في السنوات التالية، على الأرجح بسبب وباء كورونا وبعض الأزمات السياسية، إلا أنه عاود الارتفاع، جاعلاً هذا البلد الجميل قبلة سياحية، بالرغم من حيرته بين قارتين وعالمين، شرقي وغربي. لكن، ويا للنتيجة المدهشة، لا ينتج عن هذه الحيرة إلا مزيد من الحيوية الإيجابية المثلجة للقلوب.