الدعم التشيلي لفلسطين.. أسبابه ونتائجه
في زمن التطبيع، أصبح الحديث عن دعم القضية الفلسطينية أشبه بالسباحة عكس التيار، وعند الحديث عن دعم الشعب الفلسطيني، لا بد من استحضار تشيلي، تلك الدولة الصغيرة في أميركا اللاتينية، والتي قدّمت منذ سنوات طويلة دعماً كبيرا للشعب الفلسطيني؛ بل وأصبحت القضية الفلسطينية قضية للسياسيين التشيليين، ومنهم الرئيس الحالي غابرييل بوريك، المنتمي إلى الحزب الشيوعي، والذي أصبح أصغر رئيس في تاريخ التشيلي، والمعروف بنقده إسرائيل مذ كان نائبا في البرلمان، حيث أيد مشروع قانون يقترح مقاطعة البضائع الإسرائيلية من المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة ومرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل، معتبراً إسرائيل دولة فصل عنصري، بالرغم من أنّ تشيلي ليست دولة عربية وبوريك ليس حاكماً عربياً، إلا أنه اختار أن يكون، وبلاده، في صفّ القضية الفلسطينية.
اللافت في مجريات هذا الدعم أنه يأتي في صورة لم نعتد عليها سابقاً في ظل تطوّرات غيّرت معالم السياسات المنتهجة تجاه القضية الفلسطينية، فعلى مدار السنوات الماضية، لم تتأخر تشيلي في إظهار مواقفها المشرفة، والتي كان آخرها تعهدها برفع مستوى تمثيلها في الأراضي الفلسطينية إلى سفارة، وهو الموقف الذي يحمل دلالات سياسية بالغة الأهمية، ما يعني أنّ التمثيل الدبلوماسي لدولة تشيلي في فلسطين سيكون بشكل رسمي. ومن جهة أخرى، يعطي الفلسطينيون لمسألة فتح سفارات للدول في رام الله أهمية كبيرة، من حيث اعتبارها تعزيزاً لحقهم في إقامة دولة فلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وهي الخطوة التي لم تتجرّأ دول عربية قريبة على اتخاذها. بل على العكس من ذلك، تتهافت بعض الدول العربية على التطبيع مع الاحتلال على حساب أوجاع الشعب الفلسطيني، رغم قرب المسافات وتقاسم الهوية العربية والقومية، من دون أن يكون هذا كافياً للوقوف في صف فلسطين ونصرتها.
ربما يقول أحد: إنّ نظرية دعم القضية الفلسطينية من تشيلي لم تكن بنية صافية، فالضرورات السياسية ومتطلباتها تلزم أحياناً أخذ طريق مغاير، فيما يقول آخر إنّ الدفاع عن فلسطين ضروري، فنسبة الفلسطينيين في تشيلي ليست قليلة، حيث تستضيف هذه الأخيرة أكثر من 400 ألف مهاجر فلسطيني، دفع بهم طغيان الاحتلال وتهجيره نحو تلك البلاد.
الإجابة عن النظرية الأولى تلزمنا بأن نأخذ بعين الاعتبار تاريخ دعم تشيلي القضية الفلسطينية، والذي برز منذ اعتراف هذه الأخيرة بفلسطين كدولة ذات أبعاد وسيادة سنة 2011، وغيرها من المواقف التي تبنتها في ذلك، وصولاً إلى رفض الرئيس التشيلي غابرييل بوريك، منذ أشهر، تسلّم أوراق اعتماد السفير الإسرائيلي الجديد رغم وصوله إلى الموقع المخصّص لمراسم اعتماده، ليضرب بذلك كلّ البروتوكولات الدبلوماسية عرض الحائط، ويوجّه صفعة قاسية على وجه الاحتلال. وهذا الموقف الذي تصدّر العديد من عناوين أكبر الصحف والمحطات العالمية بالصوت والصورة، كان كفيلاً بإدخال تشيلي في مشاكل دبلوماسية مع دولة الاحتلال، أي أنها لم تستفد من دعمها لفلسطين شيئاً، ما يثبت أنّ دعم القضية الفلسطينية مبدأ تتبناه السياسة التشيلية وتعمل به.
دعم القضية الفلسطينية مبدأ تتبناه السياسة التشيلية وتعمل به
وفي سياق آخر، فقد اشتهرت الاتجاهات اليسارية (الحاكمة الآن في تشيلي) بنصرة القضايا التحرّرية في كلّ العالم ونبذ سيطرة الإمبريالية الأميركية الداعمة للدول المستعمرة في كلّ مجريات الحياة، ما يفسّر لنا السبب الحقيقي وراء دعم الحكومات اليسارية لفلسطين وقضيتها. ومن جهة أخرى، وللإجابة عن النظرية الثانية، وبمعادلة رياضية بسيطة يمكن من خلالها معرفة أن نسبة الفلسطينيين المقيمين في دولة تشيلي لا تتعدّى 2% من مجمل السكان البالغ عددهم 19 مليوناً، وهي نسبة قليلة جداً لأن تتخذ مرجعاً لدعم قضية كاملة، أو أن تُحدث تأثيراً في انتخابات بحجم الانتخابات الرئاسية.
ربما لا تملك تشيلي مكاناً ومركزاً قوياً في الساحة الدبلوماسية والسياسية العالمية، ولا تقدّم ذلك الدعم المالي الكبير للفلسطينيين، إلا أنّ دعمها المستمر للقضية الفلسطينية وحده يعطي الأمل للشعب الفلسطيني بوجود مناصر وفيّ لقضيتهم، رغم خناجر التطبيع والمنساقين وراء أوهام الاتفاق الإبراهيمي، الذين خانوا العهد والأمانة.
إنّ أي دعم يبقى مهمّاً مهما كان حجمه أو نوعه، وربما هذا ما يفسّر سعي الاحتلال لإقامة علاقات مع دول كإريتريا وتشاد، فقط لأنها تعي أنّ أي دعم يمكن أن يخدم مصالحها.
ولهذا يمكن القول: حان الوقت للاستفاقة من وهم التطبيع ومراجعة الحسابات والمواقف وإرجاع القضية الفلسطينية لمسارها الصحيح، ورمي كل الاتفاقيات الموّقعة على حساب دماء شهداء فلسطين في مزبلة التاريخ.