الخال الأبنودي والشعر الرائع

20 اغسطس 2023
+ الخط -

سألتُ صديقي الناقد: هل تصدقني، أو تقبل مني الزعمَ بأن الخال عبد الرحمن الأبنودي، أحسنُ شاعر في مصر؟

قال: أبداً؛ لا أصدق هذا الزعم، ولا أقبله. ثم كيف تقول إنه "شاعر" وهو يكتب بالعامية بينما الشعراءُ الكبار الفطاحل يكتبون بالعربية الفصيحة؟ يا أبو مرداس أنا لم أعهدك محباً لهذه المقارنات التي لا طائل من ورائها. سمعتك مرة تقول إن تسمية أحمد شوقي "أمير الشعراء" تعني أن بقية الشعراء فراطة، أو رعية، لا يوجد شيء يميز واحداً منهم عن الآخر. صحيح؟

قلت: نعم، صحيح. إنني أقول هذا وأقصده لكي ألفت الأنظار إلى فكرتي. واسمح لي أن أقول لك إن تزمتكم، أنتم النقاد، واستبعادكم الشعرَ المحكيَّ من خانة الشعر، بحجة أن هذا يسيء للغة العربية، لا يمكن تسويغه، لأن سنده ضعيف.. فإذا كان عماد الشعر، في نظركم، الأوزان والقوافي والبلاغة والصور، فهذه العناصر كلها يمكن أن تتحقق في قصيدة مكتوبة بالعامية، مثل ما تتحقق في قصيدة مكتوبة بالفصحى. فلماذا التمييز؟ هل تخافون على العربية من الانقراض؟ يا سيدي، لقد مضى وقت طويل والعربية الفصيحة لا تستخدم إلا في اللغة الرسمية، وفي الأدب، وأما شوارع الدول العربية فلكل شارع لغته، حتى ليكاد ابن دولة عربية لا يفهم ما يقوله ابن دولة عربية أخرى، وعندما ظهرت السينما، ثم التلفزيون، بدأنا نفهم لغات أهل مصر الثلاث، القاهرية والإسكندرية والصعيدية، ومن بعد صار الناس الناطقون بالعربية يفهمون اللهجة الشامية، ثم الحلبية.. ويعود الفضل للكاتب ممدوح حمادة والمخرج الليث حجو في تقريب اللهجة اللاذقانية القديمة من ألسنة الناس، بعد جزأين كبيرين من مسلسل ضيعة ضايعة، وهذا الثنائي نفسه، بالإضافة إلى بعض أعمال ياسر العظمة، جعلا لغة أهل ريف السويداء مفهومة.. وفي حال إصراركم على أن الشعر يجب يُكتب بالفصحى وحدها، فأنتم تحكمون بالإعدام على شعراء كبار أمثال الأخوين الرحباني، وميشال طراد، وجوزيف حرب، وطلال حيدر، وعيسى أيوب، وبديع خيري، وأحمد رامي، وسيد حجاب، وصلاح جاهين، وعبد الرحمن الأبنودي..

قال: بصراحة؟ أنا شديد الإعجاب بشخصية الأبنودي، وبالأغاني التي كتبها، وبالأخص مشيت على الأشواك، ولكنني أرفض أن أنسبها إلى الشعر.

رد الأبنودي قائلاً إن معظم الأغاني العاطفية التي تقدمونها في أفلامكم لا تعجبني

- رفضك لا يستند إلى دليل.

- وإصرارك على أنه شاعر كبير يفتقر إلى دليل.

- بل إن لدي أدلة كثيرة على أن هؤلاء كلهم شعراء كبار، وإذا شئت سأعطيك بعض النماذج قبل أن نعود إلى الخال الأبنودي. خذ مثلاً، هذه الأبيات للراحل عيسى أيوب:

رَسْمِتْ بغنجةْ إصْبَعَا

لونْ الفصول الأربعة

تَـ تزيدْ عَ فصولْ السني فصلينْ

بلكي هالمدى

بيوسعْ حبيبا ويوسعا

فتح صديقي الناقد عينيه على اتساعهما، وقال: هل هذه لعيسى أيوب بالفعل؟ أنا كنت أظنه شاعر طلائع البعث.

- هو كان موظفاً في منظمة طلائع البعث بالفعل، ولكن، لعلمك، هو مَن كتب لمحمد عبد المطلب رائعته (بتاخدني الأيام)، وكتب لوديع الصافي ضاعوا الغوالي يا دنيا.. وطلال حيدر كتب "وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان"، وجوزيف حرب كتب الصورة الشعرية التي لم أقرأ لها شبيهاً في أية قصيدة فصيحة أو عامية التي تحكي عن موج البحر اليابس.

- عفواً. ما فهمت.

- أنا أُفْهِمُكَ. في قصيدة إسوارة العروس يقول:

الشمس بتطلعْ سودا

(وبييبسْ) الموج

إذا بفكر إنه ترابَكْ مش إلي

يا تراب الجنوب

فهل مرت معك خلال حياتك صورة للموج اليابس؟ يا سيدي، وجوزيف حرب هو الذي تخيل حكاية العاشقين مكتوبة على خيوط المطر، عندما قال:

بلون الفراق اللي بآخر قصّتُنْ

ع خيوط الشتي مكتوبة سهرتُنْ

- يا أبو مرداس هل تصدق؟ أنا أستغرب استغراقك في عالم الفن خلال السنوات الأخيرة، وأنا أعرف أنك كاتب ساخر.

- وأنا، مثلك، مستغرب من نفسي، ولكن يبدو أنني كنت مشروعَ موسيقي أو شاعر غنائي غير مكتمل، فرحت أتلمس جماليات الغناء، وبالأخص الأشعار التي يغنيها بعض المطربين الكبار، وأحاول فهمها، وإجلاءها. هل تعرف كيف كتب الأبنودي أغنية مشيت على الأشواك؟ كان في جلسة مع أصدقاء فنانين، منهم محمد الموجي، وعبد الحليم، وآخرون، وكانوا يستعدون لإنجاز فيلم "أبي فوق الشجرة". في تلك الجلسة استفز عبد الحليم الخال الأبنودي إذ قال له:

- أنت تكتب أغاني شعبية جميلة، ولكن أغاني السينما لها تقنيات مختلفة أنت لا تقدر عليها.

فرد الأبنودي قائلاً إن معظم الأغاني العاطفية التي تقدمونها في أفلامكم لا تعجبني، وأنا الآن أستطيع أن أكتب لكم أغنية، لم يسبق أن قدمتم مثلها في السينما.

وقد أخذ هذا التحدي أوْجَهُ حينما أعطوه ورقة وقلماً وكتب لهم، خلال ربع ساعة:

مشيت على الأشواك

وجيت لأحبابك. لا عرفوا ايه وَدَّاك

ولا عرفوا ايه جابك

رميتْ نفسَك في حضن.. سقاك الحضن حزن

حتى في أحضان الحبايب شوك شوك يا قلبي

- إنها قصة جميلة.

- هناك شيء آخر أحب أن تسمعه مني يا صديقي الناقد.

- هات.

- في يوم من الأيام، وكنا في عز ازدهار آلات التسجيل، استيقظنا، في سورية، على صوت المطرب المصري محمد رشدي يغني تحت السَّجَر يا وهيبة ياما أكلنا برتقان، وراحت هذه الأغنية تنهمر على مسامعنا من كل أجهزة التسجيل المحيطة بنا. خلال أيام، صارت الأغنية، بلغة اليوم، تريند. إنها، في الواقع، أغنية شعبية، ولكنها، في الوقت ذاته، قصيدة عامرة بالصور الشعرية، فكحلة عيون وهيبة جارحة قلوب الكدعان (أي: شباب البلد)..

- حلو.

- نعم، حتى الآن، والقصيدة عادية، ولكن في المقطع الثاني يقول:

الليلْ بينعسْ عَ البيوت وعلى الغيطان..

وفعل ينعس يعني أنه لم ينزل تماماً، وبالتالي لم يجعل الناس ينامون.

والبدر يهمس للسنابل والعيدان

إلى أن يقول:

تحت السجر واقفة بتتعاجبي

ده برتقانة ولا ده قلبي؟

أرأيت؟ لقد قلت لك فكرة، وأثبت لك أنها منطقية.

(وللحديث بقية)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...