الحياة السريّة للمنازل والعمارات والمدن

03 اغسطس 2024
+ الخط -

يزيدُ عدد طوابق العمارة كلّ يوم وينقصُ لوحده، رغم أنّها عمارة قديمة كلّ القِدم، وليس أمام بابها موادّ بناء، ولا رافعات، ولا بنّاؤون بالنّهار ولا باللّيل. لكن، مرّة يكون عدد طوابقها تسعة، ومرّة عشرة، ومرّة أحد عشر طابقًا. ثمّ من أحد عشر طابقًا ينزلُ عدد الطّوابق في اليوم المُوالي مباشرةً إلى تسعة.

هذا يجعل عدد الشّقق أيضًا ينقصُ ويزيدُ كلّ يوم، إذا عرفنا أنّ كلّ طابق يتكوّن بشكلٍ بدهيّ من عشرين شقّة في صفّين متوازيين، يفصلُ بينهما ممرّ شبحي طويل، وفي كلّ صفّ عشر شقق. ممّا يجعل عدد الشّقق يزيد بعشرين شقّة كلّ يوم، وبعد يومين يكون العدد الزّائد هو أربعون شقّة، تختفي كلّها دفعةً واحدة في اليوم الثّالث.

الشّققُ ليستْ فارغة طبعًا، بل مأهولة بالسّكّان، بمتوسّط خمسة أشخاص داخل كلّ شقّة. حين تختفي الطّوابق تختفي الشّقق، وحين تختفي الشّقق، منطقيًّا يختفي ساكنوها.

بالضّبط، يختفي مائة شخص باختفاء كلّ طابق، ويظهرُ نفس العدد بعودة ذلك الطّابق إلى مكانه. في اليوم الثّاني يكون عدد المختفين مئتي شخص بالتّمام والكمال؛ رجالًا ونساءً وأطفالًا، بحيواناتهم الأليفة؛ قططًا وكلابًا وأرانب وفئران همستر، وفي اليوم الثّالث يعودون جميعًا بسلامٍ من الأكوان المتوازية، مع الطّوابق والشّقق العائدة، إلى العمارة، كي يُواصلوا حياتهم بشكلٍ روتينيّ من اللّحظة الّتي تركوها فيها متوقّفةً، كماء نافورةٍ متجمّد في الهواء، وتركوا فيها كلّ شيء متوقِّفًا؛ الزّمن والمكان. فيبدأ كلّ شيء بالذّوبان التّدريجيّ مع شروق شمس كلّ صباح، وارتفاعها بالتّدريج فوق سطح العمارة، وتبخّر الماء، وتحوّله إلى سحاب، وتحوّل ذلك السّحاب من جديدٍ إلى ماء.

حارسُ العمارة لا يلاحظ اختفاء الطّوابق وظهورها، ولا تغييرها المستمرّ لمواقعها

الطّوابقُ أيضًا تتبادلُ مواقعها كلّ يوم، بحيث يصعد الطّابق الأوّل في اليوم الأولّ إلى الطّابق الثّاني، وفي اليوم الثّاني يصعد إلى الطّابق الثّالث، وهكذا حتّى يصل في اليوم العاشر إلى الطّابق الحادي عشر، ليختفي في اليوم الحادي عشر اختفاءً كاملًا، ليصيرَ طابقًا (طيلة يوم كامل) في عالمٍ آخر مواز، وفي اليوم الثّالث عشر يعودُ عودةً سحريّة إلى العمارة، ليأخذَ مكانه من جديد في أسفلها، ويبدأ من جديد في الصّعود، ثمّ النّزول، في دورةِ اختفاءٍ وظهورٍ بلا نهاية.

حارسُ العمارة لا يلاحظ اختفاء الطّوابق وظهورها، ولا تغييرها المستمرّ لمواقعها، ولا اختفاء عدد هائل من السّكّان والحيوانات الأليفة كلّ يوم، وعودتهم، وهم لا يلاحظون تغيّر الحارس كلّ مرّة، إذ أنّ مهمّة الحارس هي حراسة العمارة من الخارج، وليس من الدّاخل، ومهمّة السكّان هي السّكن وليس الحراسة، والطّوابق كلّها بسكّانها متشابهة إلى حدّ التّطابق، واختفاء الطّوابق وعودتها يتمّ في ساعة الفجر الأولى، حين تكون المدينة كلّها تغطّ في نومٍ سحريّ.

ولا أحد من المارّة، أو من الغرباء، فكّر يومًا في الوقوف أمام العمارة وعَدِّ طوابقها، والعودة في اليوم الموالي لإعادة العدّ، وملاحظة ازدياد طابق، أو نقصانه بشكلٍ غامض.

الجميع كانوا يعيشون حياتهم ببداهة، يأكلون ويشربون ويتسلّون بلعب الورق ويولدون ويموتون ويولدون من جديد، بينما أحيانًا، في الأيّام القارسة المطيرة، حين يكون هناك رعد في اللّيل وعواصف وبروق، العمارة بكاملها تختفي من الشّارع، وتظهرُ في اليوم الموالي مضاعفةً بثمانية عشر طابقًا.

اختفاءُ الطّوابق وعودتها يتمّ في ساعة الفجر الأولى، حين تكون المدينة كلّها تغطّ في نومٍ سحريّ

والعماراتُ الأخرى كلّها في تلك المدينة ينقصُ عدد طوابقها ويزيد، وينقص عدد شققها ثمّ ترجع تلك الشّقق إلى مكانها في تلك العمارات، وتتبادلُ الطّوابق مواقعها بسلاسةٍ، ويختفي كلّ سكّانها، ثمّ يظهرون جميعًا في اليوم الموالي، أو في اليوم الّذي يليه، كأنّهم لم يختفوا أبدًا، وكأنّهم لم يعودوا أبدًا للظّهور.

وتختفي المدينة كلّها باستمرار، ثمّ تظهر كلّها فجأة دفعةً واحدة، كبيرة جدًّا بحركةِ مرورها الهائلة، ومواصلاتها الدّؤوبة، وزعيق سيّاراتها وأطفالها قرب أبواب العمارات وداخل ممرّاتها، وباعتها المتجوّلين على أرصفتها بالأبواق، ثمّ فجأة تختفي بالكامل عائدةً في رمشةِ عين إلى الأكوان المتوازية لتتبادلَ موقعها مع مدنٍ أخرى كلّها تختفي هي الأخرى وتظهر كحلقاتٍ في سلسلةٍ تدور بسرعةٍ قياسيّةٍ بحيث كلّما أردتَ التّحديق في حلقةٍ تكون تحدّق في حلقةٍ أخرى، ثمّ تعود إلى مكانها الأوّل في الوقت المحدّد لعودتها، دون أن يلاحظ الملاحظ أيّ شيء من ذلك، بل يصل الدوران السريع بعينك إلى اختفاء كامل للسلسلة.

كلُّ ما يستطيع الملاحظ ملاحظته فقط، هو نحلة تحطّ فوق زهرةٍ في حديقة، أو شعاع ينفلتُ من الشمس من خلف غمامة داكنة، أو فأر همستر عالق في الزمن بين طابقين، أو جنازة شخص داخل تابوت محمول على الأكتاف بصمتٍ رهيب، في شارعٍ خاو، تبتعدُ ببطءٍ شديد في الضباب، حتى تختفي بالكامل عن الأنظار.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.