الحكي كأداة للشفاء أو العار أفقاً
من منّا لا يخبّئ في ذاكرته حدثا، أو أكثر، يغمره بالعار؟ ربما، لدى الكلّ عار يحمله في داخله ويدفنه في أعماقه، وهذا ما نخجل منه عادة.
هذا ما حوّلته الكاتبة الفرنسية الحائزة على جائزة نوبل، آني إرنو، إلى فرصة للكتابة، أو بشكل أدق، جعلت من الحكي أداة للشفاء من الجرح. كلّ الأحداث الجارحة في حياتنا يمكن أن نداويها بالكتابة. فالحكي حسب إرنو يحيل أيّ فعل، حتى الأكثر مأساوية، إلى حدث عادي، هذا ما نفيده من هذه القطعة الفنية (رواية العار) التي رسمتها الكاتبة وركبتها من متلاشيات الحياة، من كلّ ما يشعرنا بالدنو والانسحاق والهامشية.
تحاول آني أرنو الغوص في أعماق محيطها الاجتماعي، وتعمل على تفكيك، أو على الأقل إدراك تلك القوانين والقواعد التي تسري بنعومة صارمة وصرامة ناعمة، في المجتمع الذي ترعرعت في كنفه، إنها تجمع بين الأنا الحميمي الشديد الخصوصية، والأنا الجماعي الذي يمثل طبقة اجتماعية، بسلاسة وانسجام ممتعين، نسجا خيوط سيرة ذاتية، لفتاة تقع فريسة صراع داخلي، وتحسّ بالعار من أصولها ووالديها ووسطها المتواضع الذي يعاني خللاً في التربية، والتعليم الذي تتلقاه، ما يفرض عليها التطابق مع عالم ليس عالمها (المدرسة الدينية الخاصة)، فهي لا تمتلك المخزون الثقافي، ولكنها متمسّكة باكتسابه، فالثقافة والمعرفة أبعدت آني إرنو عن عائلتها فوجدت نفسها في عزلة. وفي هذا السياق، تقول عن معلمتها الآنسة "ل": "لم تكن امرأة مثل والدتي أو خالاتي، بل التجسيد الحي لقانون يضمن لي، عند كلّ درس حفظته، وكلّ تمرين خال من الأخطاء، تفوّق كياني المدرسي... إصرارها على تعقب عيوبي الدراسية وسيلتها لرفعي إلى مستوى الإتقان الذي بلغته".
يبدو هنا أنّ الفتاة اكتشفت المسافة بين سلوك عائلتها والتربية التي تتلقاها، ومن هذه اللحظة لاحظت أنّ أبويها لا يتكلمان بشكل جيد، فتوّلدت لديها عقدة الدنو الاجتماعي والانسحاق، حيث تقول: "صار كل شيء في حياتنا رمزا للعار، المبول في الفناء، الغرفة المشتركة. حيث كنت أنام إلى جانب والدي، تبعا لعادة منتشرة في وسطنا بسبب ضيق المكان، صفعات أمي وكلامها البذيء، الزبائن السكارى، الأسر التي تتبضع بالسلف... معرفتي الدقيقة بدرجات السكر وبنهايات الشهر الصعبة المتميزة باستهلاك لحم البقر المعلّب، كانت لوحدها كافية لتحديد انتمائي إلى طبقة لا تحظى سوى بالتجاهل والازدراء من طرف المدرسة الخاصة".
الحكي حسب إرنو يحيل أيّ فعل، حتى الأكثر مأساوية، إلى حدث عادي
كان من الطبيعي الشعور بالعار كأنه عاقبة مكتوبة في ثنايا مهنة والديها، في طيّات مصاعبهم المالية، في ماضيهم العمالي، في طريقة عيشهم في مشهد ذلك الأحد من حزيران (محاولة الأب قتل الأم)! صار الإحساس بالعار نمط حياة بالنسبة إليها، وفي تعبير بليغ يدل على مدى اختراق العار لوجودها، تقول: "حتى أنني لم أعد أنتبه إليه، إنه يسكن هذا الجسد".
تدخلنا هذه الرواية في عالم فتاة تعيش عالمين، وسطين، المدرسة الخاصة... والحي الريفي الفقير والهامشي، وما يعتوره من أحداث، وعراك أسري، اعتداءات... حيث الانفصام المعرفي والأخلاقي بين ثقافة المدرسة وثقافة المجتمع والطبقة، ما أفرز أزمة هوية ذاتية واجتماعية تستحق المعالجة والتناول بالكتابة، وهذا ما أفلحت فيه آني إرنو، حيث تحوّل الأدب معها إلى سوسيولوجيا، أو كما تقول: "إنني أكتب إثنوغرافية ذاتي".